حسنًا، ما هو المثير في فيلم أبطاله شخصان عجوزان يتحدثان حول شؤون الكنيسة؟!
هذا هو السؤال الذي وجهه لي أحد الزملاء عندما دعوته لمشاهدة فيلم The Two Popes وقد يكون أول سؤال يطرأ على ذهن المشاهد الذي يرغب في مشاهدة فيلم مسلي وممتع، فقد تكون الصورة الذهنية الأولى لهذا السؤال هو أنه فيلم بطابع وثائقي ممل جسمه مليء بالركود، الذي هو ضد قاعدة الأفلام الجماهيرية التي تتميز بالأكشن والإثارة أو الكوميديا، وللإجابة على هذا السؤال سأتبع نقاط تطور الأحداث من خلال رحلة البطل أو البطلان في القصة.
يدور فيلم The Two Popes المستوحى من أحداث حقيقية، حول كواليس علاقة البابا الحالي الملقب بالبابا «فرانسيس» وعلاقته بالبابا السابق «بينديكت» وترتكز الأحداث بشكل رئيسي حول رحلة وصول البابا الحالي إلى البابوية الكاثوليكية، فبرغم أن البطولة تبدو مشتركة، إلا أن الأحداث تقع بالأساس في عالم فرانسيس وتؤسس لوجهة نظره، بالتداخل والتأثر مع الشخصية الثانية بينديكت.
مراجعة فيلم Capone.. أداء منفرد من توم هاردي ولكن؟
رمزية الحكي بالصورة
بهذه الحكاية السابقة التي تمهد للأحداث في أولى المشاهد، يستخدم الحكي بالصورة من خلال شاب يمر في الشوراع على رسومات على الحائط تعبر عن رحلة القديس فرانسيس الأسيزي، الذي غيّر الكاردينال رئيس أساقفة بيونس آيرس اسم بيرغوليو إلى البابا فرانسيس تيمناً به، وتستمر حركة الكاميرا حتى تصل إلى ساحة يخطب بها البابا الحالي، حينما كان كاردينال بونيس آيريس عام 2005 وبعدها يأتيه خبر وفاة «البابا يوحنا بولس الثاني».
“أية رحلة مهما كانت مجيدة… يمكن أن تبدأ بغلطة”
هذه الجملة التي يقولها بيرغوليو في خطابه، يمكن أن تمهد لتساؤل لماذا بدأت الأحداث من هذه الفترة، ولم تبدأ قبل تولي البابا فرانسيس بفترة قليلة، ثم استعراض رحلته وانجازاته من عام 2013 حتى الآن، فما هي الغلطة التي بدأت بها رحلة الفيلم؟
تمر علاقة الباباوان ببضع مراحل، أولهم في مشاهد البداية، التنافر وعدم القبول، بين وجه الكنيسة اليميني المحافظ المنغلق البابا بنديكت والذي جسده«أنتوني هوبكنز» وتميز بالتعبير عن الملامح الحادة ونظراته التي تحمل تحدي وغضب، وكهولة عمره بمشيته وظهره المقوس، ووجهها الليبرالي المتحرر المنفتح البابا فرانسيس والذي جسده «جوناثان برايس» بتشابهه الشديد شكليا أو إيحاءه بذلك مع البابا الحقيقي بوجهه الوديع الهادئ الضاحك وخفة ظله الطبيعية ولياقته البدنية، وتميز كلاهم بآداء رائع وببساطة لا تحيلك إلى الباباوان الحقيقيان إلا في مشهد النهاية الذي يظهران به.
نجد هذا التضاد في أول مشهد يجمعهم قبل اختيار البابا، يستنكر بينديكت من فرانسيس عندما يظن أن الأخير يدندن ترتيلة، بينما عندما يسأله يجاوبه بأنها أغنية لدانسيغ كوين تسمى آبا، وأيضًا شره بينديكت للسلطة في مقابل زهد فرانسيس الذي يرغب فقط في اختيار الإصلاح.
بعد انتخاب البابا بينديكت، وعدم رضا فرانسيس أن الكنيسة صوتت لتبقى الإصلاحات المتأخرة متأخرة، وترتيبه لتقاعده حتى يطلب استقالته عام 2013، يبدأ هنا الفصل التالي في مسار الأحداث الأساسي بعد التمهيد السابق، يذهب بيرغوليو لمقابلة بينديكت لمناقشة أمر الاستقالة، في ظل أزمة فضائح مسربة تخص الكنيسة، وتبدأ رحلة الباباوان والمرحلة التالية في علاقتهم، بعبارة الفيلم المفتاحية التي تحمل رسالته بذكاء إخراجي يوظف الشيء الهامشي بدقة، هذه الرسالة المسجلة بجهاز الحركة الإلكتروني الذي يحمله بينديكت لينبهه أن يتحرك..
“لا تتوقف الآن، استمر بالحركة”
كما ذكرت في السؤال المطروح في الفقرة الأولى، ليتجاوز الفيلم الروائي طابعه الوثائقي من حيث عرض وجهتي النظر، وطابعه المسرحي (حيث أن كاتب الفيلم «أنطوني مكارتن»، أعده عن مسرحيته البابا والتي عرضت سابقًا) فاعتمد بشكل أساسي على الحوار والمواجهة الكلاسيكية بين الخير والشر، ولكن بشكل حداثي بين التقيد والإنفتاح، وتوظيف الصور الرمزية والاستفادة من رسومات الفن التشكيلي المسيحي بالكنيسة لتتداخل وتعبر عن الحوار بشكل شاعري، وتوظيف اللقطات البانورامية الطويلة التي تعطي شعور التعظيم.
أول ما فعله المخرج للهروب من هذا المأزق بشكل بسيط هو استخدام الحركة، مما أكد على رسالة الفيلم في الدعوة للتقدم، بدأها في المشهد الثاني بحركة الكاميرا لحكي قصة فرانسيس الأسيزي بالرسوم، ثم الحركة كفعل مباشر للتمشية بين عجوزان، تعطي دلالة لطابع الرحلة حتى لو أن ذلك يتم في مكان واحد وهو المسكن الصيفي للبابا بينديكت بروما.
نجد هنا الحوار شديد التركيز يخبرنا الكثيرعن شخصيتي الباباوان، ويدفع نحو تطور العلاقة بينهم، حتى الجمل التي تقال بشكل هامشي نكتشف أنها تشير لشيء عن تطور الأحداث، فبينما جاء فرانسيس لطلب التقاعد، تقول له خادمة البابا بينديكت عن الأحول الجوية عند استقباله “في روما لا يعرف المرء ما يحدث تاليًا” ربما نكتشف قرب النهاية ما كان ينتظر البابا المستقبلي ولم يكن يعرفه.
في بداية مقابلة الباباوان عندما يقول بينديكت حول لغة الحوار التي سيتخدمناها بينهم “اللاتينية مفيدة خصوصا عندما أضطر إلى نقل أخبار سيئة إلى الكرادلة، فقط 20% منهم يغضبون، لأنهم فقط الذين يفهمون ما قلت” وهو الذي يفعله عندما يلقي خطاب استقالته.
“ربما نجد الله هناك، في الرحلة.. سأعرفك به!“
هذه المرة نرى التناقض بين الباباوان لكن من خلال مواجهة ونقاش سيؤدي لنتيجة مختلفة عن تعاملهم من الخارج، إذا اختصرنا النقاش في نقطة ستكون حول هل هو تغير أم تنازل؟!
نرى حرص بينديكت على المظاهر في مقابلة الكرادلة بالزي الرسمي، إلتزامه بالقواعد والحدود والتقاليد، إنطوائيته حتى في تناول الطعام وحيدًا في وجود فرانسيس في منزله، تدهور صحته وتقدمه بالعمر، عدم قدرته على التعامل بطبيعته.
في مقابل حب فرانسيس للبساطة برفضه أن يعيش في القصر الرسمي وارتداءه للملابس العادية، نشاطه الجسدي في استخدامه للدراجة ورقصه للتانغو وتشجيع كرة القدم، لطفه في التعامل مع العامة، إيمانه بأن الرحمة هي الديناميت الذي يهدم الجدران، آرائه المنفتحة حول القضايا المثيرة التي تشغل العالم، رؤيته أن الكنيسة لا تتحرك مع أن الحياة كلها تغيير حتى الله يتغير وعلينا أن نجده بالرحلة.
كل ذلك يجعل بينديكت يقول أن كل شيء في تصرفات وطريقة حياة فرانسيس انتقاد له وللكنيسة.
لكن الحوار يأخذ منحنى جلسة سمر في نهاية اليوم، يطلب بينديكت من فرانسيس أن يكونوا أخوين هذا المساء، فيحكي كل منهم عن شبابه وعن إشارات الله ويتشاركون الآراء والأشياء المفضلة والنكت على عزف بينديكت البيانو، من هنا نعرف الوجه الرقيق لبينديكت الذي عاش وحيدًا منغمسًا في الدراسة والعبادة رغم حبه للصحبة، والآن هو يشعر بالوحدة لأنه صار لا يسمع صوت الله.
فيلم توم هانكس Greyhound يعرض مباشرة على آبل تي في بلس بدلًا من السينما
“كنائسنا جميلة لكنها فارغة، مثل نار مغطاة بالرماد، نريد شخصًا ينفض الرماد ليبعده”
نعيد اكتشاف هذه الجملة الحوارية التي تُقال في أول الفيلم لفرانسيس، في مرحلة الذروة في علاقة الباباوان أثناء مقابلتهم في كنيسة روما وهي خالية، في انبهار فرانسيس بها وقول بينديكت أنه أراد أن يختبر هذه اللحظة معه، وإشارته قرب النهاية لقصة القديس فرانسيس (القديم)، الذي عندما أخبره الله أن يُصلح الكنيسة، ظن أن الأمر يتعلق بالحجارة والملاط، فالإصلاح يبدأ من روح الإنسان وليس المباني والجدران.
وفي الكنيسة بينديكت يفاجئ فرانسيس بما كان في جعبته؛ حدث استثنائي لم يحدث غير مرة منذ أكثر من 700 عام، أنه سيستقيل من البابوية، وأنه رآه الشخص الأصلح ليحل محله على عكس ما كان قلق بشأنه سابقًا، لكن هذا الحوار واللقاء الإنساني بينهم جعله يتغير بل ويسمع صوت الله من خلال فرانسيس.. لتنقلب الآية هنا ويقول فرانسيس له أنه هذا يسمى تنازل، فيحاول إقناعه بألا يستقيل لأن المسيح لأنه سيؤذي البابوية للأبد، بينما بينديكت يسأله وما الأذى الذي سأسببه إن بقيت؟!
“من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر”
نقترب بعمق من إنسانية الباباوان حينما يعترفان بأخطائهم دون مواربة، يحكي فرانسيس عن شعور الذنب الذي يعيش به، ويجعله يشعر أنه لا يصلح أن يكون البابا، كان هذا أثناء الديكتاتورية العسكرية حينما كان رئيس الكهنة اليسوعيين بالأرجنتين في السبعينات، ولم يأخذ موقف معادي ربما بسبب جبنه أو كما قال ضمانة أمان كهنته، وعلى الجانب الأخر كان يستخدمها للتفاوض مع رجال الديكتاتورية لحماية من يستطيع حمايته، وهي القضية التي يظل موقفه مرتبكًا بها، لكن في الفيلم يعبر عن أن موقفه لم يكن كافي وأنه ظل يكفر عن خطأه بعمل الخير ونشر أفكار حقوق الإنسان والمساواة ورفض الإقتصاد الإقصائي.
بينما يعترف البابا بينديكت بأخطائه، وأثناء اعترافه يتم قطع الصوت، لكن ربما كانت في الأغلب حول التستر على الإعتداءات الجنسية التي كانت تمارس في الكنيسة والتي احتمدت مناقشتهم بها، وكان رأي فرانسيس أن مرتكبها لا بد أن يُحاسب ولا يكفي الغفران له بمجرد اعترافه.
في النهاية لم يناقش الفيلم الفضائح الجنسية وقضايا الفساد والتسريبات حول الكنيسة، والتي كان يتم الإشارة إليها على هامش الأحداث، لكنه اهتم بهذه الجوانب الإنسانية من حياة الباباوان التي تحيط صورتهم الذهنية لدى الجماهير هالة من القداسة أغلب الأحيان، لكنه ركز على التقاط أنبل ما في شخصياتهم وحتى إظهار طفولتهم وروح الفكاهة في مشاهد أكل البيتزا، ورقصهم للتانغو بساحة الكنيسة، وتشجيع منتخب الأرجنتين وألمانيا في نهائي كأس العالم 2014، وهي الأشياء التي كانت تخص فرانسيس وشجع بينديكت الذي أصبح صديقه عليها.
فبغض النظر عن أيدولوجية وتوجهه الفيلم حول تجميل صورة الكنيسة وبروباغندا التعاطف معها من خلال الرجلين كما يرى بعض النقاد، فهو طرح ذلك بأسلوب فني عظيم، وتخيل قصة رائعة، وحتى لو لم يقدم حلول للمشكلات التي طرحها، فمجرد عرضه لهذه المشكلات والتساؤل حولها يستحق التحية والتقدير.
– الفيلم سيناريو النيوزيلندي أنتوني ماكارتن الذي تميز في كتابة أفلام السيرة الذاتية، وإخراج البرازيلي فرناندو ميريل.
– من إنتاج نتفليكس 2019.
– فاز أنتوني مكارتن بجائزة أفضل سيناريو في جوائز هوليود السينمائية.
– كما تم ترشيحه لعدة جوائز، آخرها أوسكار أفضل ممثل في دور رئيسى لجوناثان برايس، وأوسكار أفضل ممثل مساعد لأنتونى هوبكنز، وأوسكار أفضل سيناريو لأنتونى مكارتن، أربع جوائز جولدن جلوب، خمس جوائز بافتا.
مراجعة فيلم The Two Popes – الباباوان: هل ينفض الرماد؟! بواسطة أراجيك - نثري المحتوى العربي
مجانا .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق