تَصْفعنا الحياة بعقباتها يومًا بعد يومٍ، منّا مَنْ لا يستسلّم ويستمر في محاولاته رغبةً في الوصول للضوء بنهاية النفق، ومنّا مَن يُسلم أمره للصفعات واحدةً تِلو الأُخرى ويرضى بالرضُوخ لليأس. إنها عزاءات الفلسفة يا أعزائي، والتي بمُجملها تُهوِّن الحياة بعض الشيء.
قال نيتشه:
لا ينبغي أنْ نشعر بالإحراج بسبب ابتلاءاتنا، إذْ عبر اخفاقاتنا فحسب سينمو كلّ ما هو جميلٌ.
في كتاب عَزاءَات الفلسفة للكاتب والفيلسوف السويسري آلان دو بوتون، يُقدم لنّا آلان الفلسفة من منظور سلس وبسيط؛ يأخذنا في جولة سريعة في حقبات زمنية مُتلاحقة. يستعرض خلالها حياة مجموعة من الفلاسفة في قرون مختلفة، وكيف ساعدتهم الفلسفة في مُواجهة صعاب الحياة، وكيف كانت عزاءهم الوحيد في كل ما مرّوا به من إحباطات ونكسات.
عزاءات الفلسفة لدى سقراط تتجسد في مقاومة السائد
بالعودة إلى ربيع عام 399 ق.م، سُقراط المحكوم عليه بالإعدام- بسمّ الشوكران- على يدّ حُكام أثينا، بعد اتهامه بالامتناع عن عبادة الآلهة، وباخْتلاق بدع دينيّة، وبإفساد شأن أثينا.
كلّ مُجتمعٍ يمتلك أفكارًا عمّا ينبغي أنْ يُؤمن به الفرد، بحيث يتجنب التشكيك ومخالفة الآراء السائدة، كان لليونانين القدماء أيضًا الكثير من معتقدات الفهم السائد، كالشعور بالتفاؤل والعظمة لامتلاكهم العبيد. وكذلك الميل للنزعة العسكرية وتقديس الشجاعة وانحسار نظرتهم لها في كَوّن المرء يُصبح رجلًا حقيقيًا عند إتقان فنون القتال والبَطش بالأعداء، وخُضوع النساء خضوعًا كُليًا لسُلطة آبائهن وأزواجهن، وحرمانهن من دورهن في الحياة العامة والسياسة وحتى امتلاك المال.
كان سُقراط حينذاك يَجول أثينا بنقاشاته رافضًا سياسة القطيع، مُعترضًا على كلّ تلك المُعتقدات. يرى أنّ على المرء تحديد هويته من تلك المفاهيم السائدة، منحته الفلسفة قناعاتٍ مكّنَتْه من ثقة مبنية على العقل-ليست هستيرية- حين كان يُواجه الرفض. كانت عزاءات الفلسفة هي مقاومة السائد بدون شك.
حين وُجهت تلك الاتهامات لسُقراط، وقف ببسالة أسطورية أمام المحكمة، لم يُذعن خوفًا من مخالفة الرأي السائد، أو أمام إدانة الدولة له، ولم يرضْ بالتخلي عن أفكاره لمجرّد تذمّر الآخرين.
قال سقراط:
طالما أننّي أتنفس وأملك القوة، لن أتوقف عن ممارسة الفلسفة وإسداء النصح، وتوضيح الحقيقة لكلّ من أُصادفه… سواء برأتومني أم لا فأنتم مُدركون أننّي لن أُغير سلوكي، حتى لو مُتّ مِئة مرة.
ليس شرطًا _بالطبع_ أن نُصبح فلاسفة حتى نتوصل لماهية الحقائق المُبهمة، أو حتى نرضى بالخنوع. سقراط فقط يحثّنا على أنْ لا نفقد رباطة جأشنا بفعل ثقة أُناس آخرين أخفقوا في تَقبُل آرائنا. وحتى لا نقترف خطأ حين نجهل كيفيّة الرد على أولئك الذين نُخالفهم الرأي، إذا لم نُمعن النظر من البداية في وجه الاعتراضات الموجهة لنّا. يمنحنا منهج سقراط الفلسفي طريقةً لتطويع آرائنا بشكل يُلائم الموقف دون فقد ثقتنا، حتى لو تم رفضنا.
رُبما وعلى نحوٍ طبيعيّ، ثمة أوقات نكون فيها على خطأ، ويتم دفعنا للتشكيك في آرائنا، ولكن ما ينبغي أنْ يُقلقنا ليس عدد الناس الذين يُعارضوننا، بل مدى قوة الأسباب التي تدفعهم إلى فعل ذلك. فبدلًا من الالتفات إلى فكرة وجود مخالفة الآراء السائدة، ينبغي علينا البحث عن تفسير لتلك الأسباب، وهذا ما أراد الكاتب إيصاله لنا.
اقرأ أيضًا: شرحُ الفلسفة لغير الفلاسفة ولمحةٌ موجزةٌ عن كلِّ شيء
جميعنا قد نكون مُبتلين بنزعة المعارضة؛ أنْ نُنصت للجميع، وأنْ تُزعجنا كلّ كلمةٍ قاسيةٍ وملاحظةٍ هازئة، ولكن لابد لنا من التدقيق في المنطق الذي استند عليه الآخرين للتوصل إلى نتائجهم. وحتى لو عَجَزنا عن التملص من عواقب المخالفة، سنتجنّب –على الأقل- الإحساس المُوهِن للبقاء على خطأ. يجب أن تمنحنا عزاءات الفلسفة بعض السلام النفسي، والقدرة على التغيير.
الأمر الجزم أنّ العالَم أكثر مرونةً مما يبدو عليه، إذ أنّ الآراء السائدة لا تنبُع عادةً من عملية تأمل صارم، بل عبر قرونٍ من التخبّط الفكريّ، كما لا ينبُع استحقاق الاحترام الفعلي من إرادة الأغلبية بل من المنطق الملائم.
يضرب لنا دو بوتون هنا مثالًا ليس عن كيفية اعتناق فكرة أو فعل فقط، بل عن كيفية الاحتفاظ بالثقة وعدم التخوف من إبداء الرأي، وكيف لا يُعتبَر الحكم خاطئًا إذا رفضته الأغلبية، وكذلك لا يُعتبَر صحيحًا إذا لاقى تأييدًا كُليًا.
أبيقور يرى أن أبرز عزاءات الفلسفة تتمثل في التعويض عن نقص المال
كان أبيقور ممن اهتموا بالفلسفة باكرًا، وأسس فلسفته الخاصة للحياة، وكانت له عزاءات الفلسفة الخاصة أيضًا. وكان مما ميز فلسفته هو اقترانها باللذة الحسّية وأنّها هي منطلق السعادة الحقيقية. ولكن نادرًا ما كانت الفلسفة تقبله، رُبما ميول أبيقور للذة هنا، يعني وجود حياة مُترفة وشهوانية،. ولكنه على العكس فلم يكن يمتلك منزلًا كبيرًا، وكان طعامه بسيطًا، وكان يرى في كل هذا غاية المتعة.
يقول أبيقور:
كما لا يكون للطبّ أيُّ نفعٍ عندما لا يتخلّص من العلة الجسدية، ستكون الفلسفة غير ذات نفع إن لم تتخلَّص من معاناة العقل.
توصَّل أبيقور إلى فلسفته بشأن ما يجعل الحياة ممتعة، وقد أشار إلى أنّ الوصول للذة يَكمن في أمور بسيطة مُحببة للقلب. كان على رأسها الصداقة.
مِن بين جميع الأشياءِ التي تمنحها الحكمة لتساعد المرء على عيش حياةٍ مليئة بالسعادة. يُعتبر امتلاك الأصدقاء أعظمَها على الإطلاق. فلن نكون موجودين، ما لم يكون ثمّة أحدٌ يرى أننّا موجودون. وأنْ نكون مُحاطين بأصدقاء، يعني حتمًا تأكيدًا لهويتنا. وأنّ مجموعة صغيرة من الأصدقاء الحقيقيين قدْ تَمنحنا الحب والاحترام اللذين، قد تعجز الثروة عن منحِهما.
ويُضيف أبيقور أيضًا:
قبل أنْ تأكل أو تشرب أي شيء، فكر مليًّا بمن ستأكل وتشرب معه لا بما ستأكله أو تشربه؛ إذ إنّ تناول الطعام دون رفيق يُشبه حياة الأسد أو الذئب.
تضمنت عزاءات الفلسفة لديه أيضًا شأن الحرية؛ فاشترى حديقة وزرعها مع أصدقائه ليُوفروا حاجتهم من الطعام،حتى لا يضطروا للخضوع لذُل أصحاب العمل مقابل لقمة العيش. واعتنق في فلسفته أيضًا التفكير وتحليل ما يقلقه بشأن المرض والمال والموت. كان يرى أنّ التحليل الواعي يُهدّئ الذّهن، ويساعد على التصدي لمستجدات الحياة، بل والتكيّف معها بشكل أكثر مرونة.
يُوضح لنا دو بوتون لُبّ فلسفة أبيقور هو أننّا لو امتلكنا مالًا مِن دون أصدقاء أو حرية أو حياة هادئة لن نكون سعداء فعلًا. وعلى النقيض، فلو امتلكنا كل هذا ولكن مع الافتقار إلى الثروة لن نشقى أبدًا. تتجلى فلسفة أبيقور هنا في أنّ الحاجات التي تُلبيها الأشياء الثمينة لا يمكن أنْ تكون هي التي تعتمد عليها سعادتنا؛ رُبما تكون السّعادة بعيدة المنال وخاصةً مع صعوبات الحياة، ولكنّ العقبات ليست مالية بشكل أساسي.
سينيكا يجد في عزاءات الفلسفة الخلاص من الإحباط
كان سينيكا يرى أنّ أهم عزاءات الفلسفة هي القدرة على الصمود أمام المحن والإحباطات، ويدين بحياته لها. فمصادر إرضائنا تكمُن خارج نطاق سيطرتنا، والعالم لا يتكيّف مع رغباتنا.
يقول سينيكا:
سنتمكَّن من بلوغ الحكمة حين نتمكَّن من أنْ لا نُفاقم استعصاء العالم أمامنا من خلال ردود أفعالنا، ونوبات الغضب، ورثاء الذات ، والقلق والسخرية المريرة، والتعالي.
وكانت رؤيته عن العقل ترى أنّ الغضب ما هو إلا نمطًا من الجنون، وكثيرًا – في لحظات الغضب- ما يُنكر الغاضبون أفعالهم، ويَعمُون عن كلّ شيء، وكأنّ عقولهم مُغيبة تمامًا، وبعد أنْ يهدأوا، يُبرّرون أنّ الغضب أقوى من تفكيرهم وعقولهم.
رُبما الثراء يُعزّز الأمزجة السيئة، ولكنّ الإقلاع عن الغضب سيحدث حينما نُقلع عن كوننا مُفعمين بآمال تَكبُر استيعابنا ومقدورنا. يُشير دو بوتون إلى أنّ فلسفة سينيكا مُرتكزة على التعامل بعقلانية وتوقع جميع الاحتمالات، وأنْ نُبقي في أذهاننا احتماليّة وقوع كارثة في أي لحظة. فمعظم الأحيان نتأذى من أخطار لا نتوقعها. وبالرغم من أنّ حياة سينيكا انتهت بالانتحار والموت البطئ بعدما أُمر بقتل نفسه، إلا أنّه لم يرضخ لإحباطات الحياة المُعتادة بفضل عزاءات الفلسفة المحببة إليه، وظلّ يواجه الحياة حتى النهاية.
أما مونتين، فالعزاء هنا بشأن العجز
ويأتي دور مونتين ليُعزينا بشأن العجز بكل صوره، كان مونتين يجد في القراءة مصدرًا لراحته في الحياة، وتعزيةً له في عزلته، وأنّ اللجوء للكتب هو كلّ ما يحتاجه كي يطرد أفكاره الكئيبة.
- عن العجز الجسدي، كانت فلسفة مونتين ترى أنّ أكبر بلاءاتنا هي ازدراء كينونتنا، فالحكمة لابد أنْ تتضمن تَعايشًا مع ذواتنا الدنيا، ولا بدّ أنْ تتبنّى رؤية متواضعة بشأن الدّور الذي يمكن أنْ يلعبه الفكر والثقافة العالية في أيّة حياة. كما أن أعظم الفلاسفة لم يُستثنَوا من الذل الجسدي، فلا يُمكن مثلًا إنكار شيخوخة الجسد.
- عن العجز الفكري والثقافي، رأى مونتين أنّ المثالية بدأت تأخذ حيّزًا كبيرًا في المجتمع بصورة فجّة ومنقوصة الآدمية، زاعمة أن هذه الملائكية هي الصواب وهي ما يجب أن نكون كلنا عليه. وهذا ما انتقده بشدة في جوانب ومواضيع مختلفة، إنه ضد التطرف بشكل عام، ومع أن يتم التعامل بموضوعية مع آدميتنا وقبولنا لما نحن عليه دون تأنيب للضمير أو جلد للذات.
نجدّ من هنا أنّ إدعاء المثالية لا يُفيد، وأنّه مهما عانينا من العجز فليس ثمة داعٍ لتثبيط همتنا، حتى لو بدّونا وكأننا لا نُساوي شيئًا مقارنةً بأولئك الذين تبصّروا في الماضي. فالحياة الفاضلة العادية الساعية إلى الحكمة من دون أنْ تكون بعيدة عن الحماقة، هي إنجاز كافٍ بذاته، وواحدة من عزاءات الفلسفة بالطبع.
شوبنهاور المتشائم يتغنى بالعزاء بشأن انكسارات القلب
لنأتي إلى أقسى الانكسارات عند البعض وهي انكسارات القلب. حيث شوبنهاور أعظم التشاؤميين في الفلسفة، والذي لم يَلقْ اهتمامًا من أحدّ منذ صغره، ولم يشعر بالسعادة بالرغم من ثروته. كان يرى أنّ الحياة شديدة القصر والإرباك، سريعة الزوال بحيث لا تستحق كل هذا العناء.
يُخبرنا الكاتب بإخفاقات شوبنهاور المتوالية. من إخفاقه في الحصول على منصب أكاديمي بقسم الفلسفة ببرلين، إلى رفضه كمترجمٍ من قِبل الناشرين، لكن الأمور كلها تغيّرت بعد سنوات من المحاولات المخيّبة، حتى اتسع صيته بكلّ أرجاء أوروبا.
يقول شوبنهاور:
أسعد إنسان هو من استطاع احترام نفسه بإخلاص، مهما حدث.
لم يكن الفلاسفة ميّالين عادةً لأن تأخذهم المشاعر، وأنّ مآسي الحب شديدة الصبيانية من الأفضل تركها للشعراء، وأنّها ليست مُهمّة الفلاسفةز ولكن شوبنهاور رأى أنها مسألة لها دورًا مُهمًا في حياة الإنسان، رُبما كان مُستاءً من الفعل الفوضوي للحب، ولكنه رفض تهميشه. وربما عزاءات الفلسفة لديه أبرزها هي القدرة على الحب.
اقرأ أيضًا: الاختلاف عن مجتمعك: غربة في قلب الوطن
تبنى شوبنهاور فكرة أنّ الحب يدفعنا إلى إرادة العيش، والذي يَعتبره أكثر هواجسنا حتميّة لاستمرار بقاء الإنسان. وأنّ عزاءنا تجاه انكسارات القلب سيكون عند إدراك أنّ حالتنا ليست سوى واحدة بين آلاف، وأنّ الخلاص من التعاسة يَكمُن في العزوف عن الواقع نحو الفن والجمال، والبحث هناك عن العزاء والسلوان.
وأخيرًا: نيتشه والعزاء بشأن المصاعب
يصل بنا دو بوتون للعزاء الأخير مع نيتشه -بشأن مصاعب الحياة-، تقوم فلسفته على تقبل الحياة بنعيمها وشقائها، وأنّ كلّ ما يُشعرنا بالتحسُّن ليس جيدًا لنا بالضرورة، كما أنّ ليس كلّ ما يُؤذينا سيئًا.
يقول نيتشه:
نعلم أنّ الحياة تتكوّن من المعاناة، وأننا كُلما جهدنا أكثر في محاولةِ الاستمتاع بها، ستزداد عبوديتنا لها، ولذا ينبغي علينا نبذُ مُتَع الحياة والركون إلى التقشف.
وفي النهاية..
رُبما كان هذا عزاءً قصيرًا وجهّه لنا آلان دو بوتون -أخذنا فيه للفلسفة من أبسط طُرقها-، ورُبما نمرّ بما هو أصعب. ولكن العزاء الحقيقي يَكمُن بداوخلنا، وفهمنا لفلسفة تلك الحياة.
عزاءات الفلسفة: كيف تُساعدنا الفلسفة في الحياة؟ بواسطة أراجيك - نثري المحتوى العربي
مجانا .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق