“ربما يكون استكشاف المجهول شيئًا يستحق العناء من أجله لسبب واحد فقط وهو أن قلة المعرفة شيء مؤلم جدًا”… هكذا كان يفكر فيلسوف السينما البولندية كريستوف كيشلوفسكي، الذي يعتبر من كبار مخرجي السينما البولندية، وواحد من أهم المخرجين في العالم.
يرجع السبب وراء شهرة كريستوف كيشلوفسكي الفنية، والتي في نظري أرى أنه قد حظي بها بعد رحيله بشكل أكثر، إلى استخدامه غير المسبق للفن السابع “السينما” بشكل عام حيث استخدم السينما للتعبير عن الملموس وغير الملموس، وغاص بها في عمق الأشخاص والأشياء، لدرجة جعلت أفلامه كلها مميزة من حيث المتعة البصرية، والدراما الإنسانية المليئة بالمعاني والمشاعر، كما حملت أفلامه على عاتقها رسائل كثيرة حاول كريستوف توصيلها لقلوب كل من بالعالم، بالطريقة التي وصلت بها إلى قلبه واستطاعت أن تخرج منه في صوره السينمائية.
ففي مثل هذا اليوم عام 1941 جاء إلى العالم كريستوف كيشلوفسكي برؤيته الفنية العبقرية التي غيرت في مفهوم الفن السابع وكل الفنون التي سبقته، والتي تركت تأثيرها على أعمال أجيال وأجيال من المخرجين والفنانين على مستوى العالم كله، فكريستوف ليس حيًا فقط لأن أفلامه وأعماله تنبض بالحياة -التي أراد أن يعيشها- بل ولأنه صنع لنفسه مكانة خاصة في قلوب كل محب للسينما من أول صناعها وإلى جمهورها، فهو لم يقدم للسينما قائمة من الأفلام وحسب، بل بحورًا من الرسائل، وعالمًا من الأفكار والرؤى التي كما غيرت في مُقدِمها غيرت في كل مُتلَقٍ لها.
فى ذكرى ميلاده: فيلم The Double Life of Veronique لكيشلوفسكي.. رحلة شعورية مليئة بالنشوة
محطات حياة كريستوف كيشلوفسكي
في 27 يونيو عام 1941 ولد كريستوف في مدينة وارسو عاصمة بولندا، التحق بكلية “فنيو للمسرح” عام 1957 ولكنه تركها بعد ذلك ليكسب رزقه من العمل فعمل ببعض المهن كان أكثرهم شهرة هي عمله بالخياطة.
في عام 1966 بدأت رحلته في الإخراج حيث قدم مجموعة من الأفلام القصيرة والوثائقية التي تحدثت وركزت على الحياة اليومية للناس من مختلف المهن والطبقات وفي مختلف المدن ببولندا. وفي عام 1969 تخرج من كلية “لودز” السينمائية التي التحق بها ليحقق حلمه بالإخراج المسرحي والسينمائي، والتي لم تساعده فيه كليته الأولى.
وفي عام 1975 بدأ مشواره الفعلي في عالم صناعة الأفلام الروائية الطويلة، واستمر حتى أعلن اعتزاله للفن عام 1994، قدم خلال هذا المشوار أكثر من 41 فيلمًا ما بين سينمائي ووثائقي وتليفزيوني، ومن أشهر أعماله: Blind Chance 1981 ،The Double Life of Veronique 1991، وثلاثية الألوان “أزرق-أبيض-أحمر” 1994، ومسلسله التليفزيوني الوصايا العشر Dekalog.
تولى عضوية لجنة التحكيم بمهرجان كان السينمائي الدولي عام 1989، وترشح للأوسكار في فئتي الإخراج والسيناريو عن آخر أعماله Three colors: Red 1994، وفي 13 مارس عام 1996 رحل عن عالم السينما الذي أفنى فيه جهده وأحبه إثر أزمة قلبية أصابته بعد إجرائه لأحدى عمليات القلب المفتوح.
ثلاثية Three Colors Trilogy .. متحف للكنوز السينمائية
منهج كريستوف كيشلوفسكي الفني والسينمائي
“أنا أريد الوصول إلى العمق في الأشياء التي أتعامل معها”
الغوص في أعماق الأشياء والأشخاص كان أهم ما ميز كريستوف كيلشوفسكي عن غيره، ربما لم يتطرق مخرج من جيله إلى ما تمر به النفوس البشرية وعرض ما تحمله من مشاعر وعقد نفسية، ومحن واضطرابات كما فعل هو مستخدمًا عينه ذات الرؤية الخلابة وعقله المليء بالأفكار المعنية بالأمر.
فمثل دوستويفسكي وشكسبير غاص كريستوف في التعبير عن كل ما يخص الإنسان وما يعنيه، وعبر عما يشعر به كل منا وكأنه داخلنا بالضبط، ومثل سارتر سأل من خلال أعماله عن أشياء كثيرة حول معنى الحياة والوجود، وكان ذاتيًا وشاعريًا مثل شارل بودلير باحثًا عن الجمال في كل شيء حتى يتخلص من عناء الواقع، وكان رسامًا تطرق بصوره السينمائية التي رسمها إلى ما وراء الأشياء بانطباعية مثل فان جوخ، كما كان مثل أنطونيو فيفالدي في موسيقاه يعزف على آلة السينما بحواسه وروحه كلها حتى يجعلك في لحظات الصمت تسمع نغمته الخاصة.
فحب التعمق جعله فنانًا لكل الفنون السبعة بلا استثناء، ففي كل فيلم له تشعر وكأنك في رحلة خفيفة تجمع كل الفنون في قالب واحد، تشعر باستثنائيته وتفرده الذي يتركه ببصمته في أعماقك، ليجعلك تتساءل كيف استطاع أن يعبر عنك بهذا الشكل؟ والإجابة على سؤالك تكمن في بساطته، في رؤيته الفريدة التي خُلق بها، في أنه يشبهك تمامًا ويشعر بما تشعر به، لأنه إنسان تطبّع فنه بإنسانيته. في لقاء أجراه معه أحد طلاب جامعة أكسفورد عام 1995 قال كيشلوفسكي معبرًا عن فلسفته الخاصة التي تظهر مليًا في أفلامه، والتي تحقق إنسانية فنه ومنهجه السينمائي الفريد ما يلي:
“من القناعة الراسخة لدى المرء أنه إذا كان شيء جديرًا بالاهتمام به من أجل الثقافة، فلابد أن يكون لمس الموضوعات والمواقف التي تربط بين الناس وليست تلك التي تفرق بينهم. فهناك أشياء كثيرة في العالم يمكنها أن تقسم الناس مثل: الدين والسياسة والتاريخ والجنسيات، إذا كانت الثقافة قادرة على أي شيء، فيجب أن يكون ذلك الشيء هو إيجاد ما يوحدنا جميعًا، وهناك بالفعل أشياء جمع الناس كلهم بلا تفرقة، لا يهم من أنت أو من أنا، أنت تتألم مثلما أفعل أنا، لأن الألم موجودٌ في الحالتين. فما يجمع الناس هو المشاعر، فكلمة “الحب” لها نفس المعنى عند الجميع. أو “الخوف”، أو “المعاناة”. كلنا نخاف بنفس الطريقة ومن نفس الأشياء، وكلنا نحب بنفس الطريقة، ولهذا أنا أتحدث عن هذه الأشياء، ولأني في كل الأشياء الأخرى وجدت ما يفرقنا”.
التأثير والتأثر
كانت البيئة المحيطة هي مصدر تأثر كريستوف كيشلوفسكي، حيث كما عرف عنه كان يعشق الصدف ويرى أنها خامة جيدة لصنع القصص الجذابة، بالإضافة إلى هوسه بالآخرين واهتمامه بالتفاصيل الظاهرة والمستترة في كل شيء كان يراه، مستعينًا بقراءاته المتنوعة في الأدب، كل ذلك وغيره أثقل من فلسفة كريستوف وساعد في تكوين رؤيته الفنية والحياتية بشكل ظهر واضحًا في أفلامه وخصوصًا في مسلسلة الوصايا العشر. فإنتاجه الفني كمخرج وككاتب سيناريو شُهِد له من العديد بتميزه واختلافه وتعمقه في جوهر كل شيء، مما أثر في أعمال كثيرة جاءت لتحاور ما حاوره في أعماله من تقاطع الدروب في الحياة والقدر والمصادفة، على سبيل المثال منها: فيلم “Amelie 2001” لجان بيير جونيه، وفيلم “Code Unknown 2000” لميشيل هنكه، فيلم “Run Lola Run 1998” لتوم تيكوير، وفيلم “Sliding Doors 1998” لبيتر هويت وأفلام كثيرة غيرهم لا يمكن حصرها ظهر فيها التأثر بفلسفته الخاصة وقضاياه الروحية والإنسانية التي تطرق لها في مشواره.
كريستوف كيشلوفسكي يعتبر مشوراه الفني إرثًا لتعليم فن السينما وبقية الفنون كما ينبغي أن يتم تعليمها، ويعتبر منهجه الفلسفي، الذي حاول التعبير عنه من خلال أفلامه ولقاءاته المعدودة، مادة متكاملة تحمل دروسًا عديدة تمكن أي شخص سيهتم به من رؤية الحياة والتفاصيل العميقة في نفوس كل شيء، كما أجابت بساطته ورؤيته الفريدة الموجودة في كل عمل له عن سؤال هام وهو: كيف يمكن لإنسانية الفنان وفلسفته أن تصل لأعماق من شاهدوا فنه بلا حواجز؟
فكريستوف كيلشوفسكي يعتبر بالنسبة لصناعة السينما والفنون بشكل عام، من الغائبين الحاضرين دائمًا وأبدًا بمشواره الذي يجعله يستحق التربع على عرش تلك القائمة إلى الأبد.
ذكرى ميلاد المخرج البولندي كريستوف كيشلوفسكي .. الذي ما زال حيًا بما قدمه للسينما بواسطة أراجيك - نثري المحتوى العربي
مجانا .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق