كنا قد رأينا في مقال “في عالم ميكانيكا الكم الأغرب من الخيال.. من الحتمية إلى الاحتمالات!” أن البنية الرياضياتية لميكانيك الكم والناجحة للغاية، تتلخص في النقاط التالية:
- تمثل حالة الجمل الفيزيائية بموجة احتمالية (سنقول من الآن وصاعداً بدالة موجية) بمعنى أن القوانين التي تحكم سلوك الجمل الفيزيائية هي قوانين احتمالية وليست قوانين حتمية.
- تكون الدالة الموجية للجملة الفيزيائية قبل القياس عبارةً عن مزيج من الحالات التي يمكن أن نحصل عليها بعد القياس، وهذا ما يدعى بحالة تراكب، والحالة قبل القياس هي حالة مختلفة جذرياً عن الحالات بعد القياس في الحالة العامة.
- عند إجراء قياس على الجملة، ستظهر فقط إحدى النتائج الممكنة، وهذا ما ندعوه بانهيار الدالة الموجية.
- مبدأ الارتياب لهايزنبرغ، والذي ينص على أن هناك بعض المقادير الفيزيائية التي لا يمكن قياسها معاً، لأنه يستحيل تعريفها معاً أصلاً. على سبيل المثال، كما رأينا في المقال المذكور أعلاه، فإن علينا التخلي عن فكرة أن الجسيم له مسار كلاسيكي محدد تماماً، وهذا يعني بأنه لا يمكن لنا قياس موضعه وسرعته معاً (إذ لو أمكن ذلك في كل نقطة، لكان للجسيم مساراً كلاسيكياً محدداً تماماً) وهنا يأتي مبدأ الارتياب، الذي ينص على عدم إمكانية قياس موضع جسيم وسرعته معاً بدقة مطلقة (بشكل أدق يجب أن نستبدل سرعته بكمية حركته التي يمكن القول عنها هنا أنها عبارة عن حاصل ضرب كتلته بسرعته، ولكن هذا التمييز غير مهم لأغراضنا هنا). ونلاحظ هنا أن مبدأ الارتياب لا علاقة له بدقة الجهاز المستخدم في القياس أو نوعه، ولا يمكن لنا التملص منه بتحسين أجهزتنا، بل هو من طبيعة قوانين الفيزياء ذاتها!
إن أي تفسير لميكانيك الكم، هو محاولة لتفسير القواعد السابقة. وسنتناول التفسيرات الأكثر شيوعاً بين الفيزيائيين عبر عدة مقالات نبدؤها بهذا المقال.
ما هو تفسير كوبنهاغن؟
إن تفسير كوبنهاغن§ هو عبارة عن تفسير لميكانيكا الكم قام بوضعه بشكل رئيسي كل من نيلز بور وفيرنر هايزنبرغ، وقد أخذ اسمه هذا من مدينة كوبنهاغن عاصمة الدانمارك، التي احتوت على معهد نيلز بور الذي كان يعمل فيه هايزنبرغ مساعداً له في حينها. يستند هذا التفسير بشكل كبير على مبدأ التتامية الذي وضعه نيلز بور، والذي ينص على أن الأشياء المادية تمتلك صفات متتامة تأتي في أزواج، ولا يمكن قياسها معاً، بحيث أنه لو امتلكت الجملة إحدى الصفتين المتتامتين، لما أمكن أن تمتلك الأخرى. بل وإن جهاز القياس هو ما يحدد أي الصفتين المتتامتين ستظهر، ولكل منهما طريقة قياسها الخاصة.
إن هذا المبدأ يفسر بشكل رائع مبدأ الارتياب لهايزنبرغ، بالقول أن كلاً من الموضع وكمية الحركة هما صفتان متتامتان للجسيم وبالتالي لا يمكن قياسهما معاً. وإن ارتباط الصفة التي ستظهر، بعملية القياس التي نقوم بها على الجملة، يعني بأن جهاز القياس هو عنصر أساسي كي تظهر هذه الصفة في الطبيعة. وبالتالي فما نعرفه من صفات للمادة في الطبيعة، هي صفات لها معنى فقط بعد إجراء القياس، أما قبل القياس، فكل ما يمكن الحديث عنه هو احتمالات ما سنحصل عليه بعد القياس، ولا يمكن لنا وضع أي تصور عن الحالة قبل القياس بدلالة المفاهيم التي نعرفها في الفيزياء الكلاسيكية لأن هذه المفاهيم هي بمعنى من المعاني صفات لها معنى فقط بعد إجراء القياسات التي تعرّفها، وكل ما سبق يؤدي إلى أنه لا يمكن لنا أن نقوم بقياس على الجمل الكمومية دون جعل حالتها تتغير بشكل دراماتيكي!
بهذا المعنى فتفسير كوبنهاغن يعتبر أن الدالة الموجية تزودنا بكل ما نستطيع قوله عن الجملة قبل القياس، ولا يوجد متغيرات خفية كلاسيكية يمكن أن نلصقها بالجملة لنحصل على توصيف لحالتها قبل القياس بدلالتها.
ويعتبر تفسير كوبنهاغن أن سلوك الجمل المكونة من عدد كبير من الجسيمات سيؤول للسلوك الكلاسيكي المألوف على الرغم من أن كل جسيم من هذه الجسيمات سيوصف وفق ميكانيكا الكم.
وعليه، وبما أن جهاز القياس مكون من عدد كبير من الذرات، فهو سيعطي دوماً نتيجة كلاسيكية محددة تماماً (كأن يمر الإلكترون من شق محدد تماماً في تجربة الشق المزدوج بعد وضع جهاز القياس) وليس حالة غريبة هي عبارة عن مزيج من النتائج الممكنة.
وبالتالي وفقاً لهذا التفسير، هناك حد فاصل بين الجملة المدروسة، التي يجب أن توصف بدالة موجية، وبين الراصد (الذي يعد جهاز القياس امتداداً له)، والذي يوصف كلاسيكياً، وهذا الحد الفاصل يدعى فاصل هايزنبرغ Heisenberg cut. ووضع هذا الحد الفاصل يعتمد على المسألة قيد الدراسة، وهو لذلك اختياري لحد بعيد.
خاتمة
إذاً في الختام، يتبين أن تفسير كوبنهاغن يعطي صورة غاية في الغرابة عن العالم. إذ تخيل مثلاً أنه لا معنىً لمكان الإلكترون قبل أن نقيسه ومع ذلك، فالإلكترون بحد ذاته موجود! ولكن كيف؟ ولماذا؟
في الواقع إن تفسير كوبنهاغن هو غريب لدرجة أن بعض ألمع الأسماء من مؤسسي ميكانيكا الكم مثل شرودينغر وأينشتاين وغيرهما قد حاولوا تحديه وبشدة، وسنطرح في المقال القادم بعض هذه التحديات وما كان رد تفسير كوبنهاغن عليها، وسنرى أن هذه النقاشات بالفعل، تمثل بعضاً من أجمل النقاشات في تاريخ العلم بحق!
تفسير كوبنهاغن : محاولة لتفسير لميكانيكا الكم بواسطة أراجيك - نثري المحتوى العربي
مجانا .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق