فقط تخيل أنك طبيب، تقوم بعملية زراعة الأعضاء للأطفال، وهناك جناح كامل في المستشفى مليء بالأطفال الذين ينتظرون العملية، وتفرض الظروف الراهنة أنَّ نصف هؤلاء الأطفال سيموتون، لأنهم لن يستطيعوا الحصول على الأعضاء التي يحتاجونها في الوقت المناسب.
في نفس المستشفى، تُولد طفلة بدماغٍ غير مكتمل، تستطيع هذه الطفلة أن تتنفس وقلبها ينبض، لكنها غير واعية لما يحدث حولها، فهي لا تملك دماغًا مكتملًا كغيرها من البشر، ومن المُرجح أنها لن تحيا حياة البشر الطبيعية، بل يرتفع احتمال موتها خلال الأيام العشر الأولى من حياتها. أخبرني الآن، كيف ستتصرف في هذه الحالة؟ القرار صعب، أليس كذك؟ دعنا نحلل الأمر سويًا، لربما نصل إلى قرارٍ أقرب إلى الصواب.
نظرةٌ على أحدثِ عمليات زراعة الوجه… قصةٌ أقرب إلى الخيال!
ماذا سيحدث إذا أصغيت لفكرة إخراج أعضاء الطفلة المريضة وزراعة هذه الأعضاء في الأطفال الذين يحتاجونها؟
في هذه الحالة، ستُقتل الطفلة المريضة لا محالة، لكن في المقابل ستنفذ حياة العديد من الأطفال، الذين ستُتاح لهم الفرصة للحصول على الأعضاء، التي تساعدهم في النهاية على الامتثال للشفاء، وأن يصبحوا أصحاء فيما بعد، ويعيشوا حياة طبيعية، دون عناء.
أرى أنها نظرية منطقية بعض الشيء، لكنها قاسية على القلب البشري، فليس من السهل أن يقتل الإنسان أخيه الإنسان لأي سبب كان، إلا في حالات القصاص، بسبب جريمة ما، لكن بالنسبة للحالة السابقة، فهي طفلة بريئة، لا تملك من أمرها شيئًا، لذا يجب أن يكون الطبيب القائم على مهمة كتلك، على استعداد كامل لما قد يتسلل إلى ضميره من تأنيب، أو ما سيُسببه له قلبه من ثورة عارمة.
ما هو التصرف الأصوب في هذه الحالة؟
تشير إحدى إحصائيات منظمة الصحة العالمية أُجريت في عام 2015، إلى أنه تم إجراء حوالي 66000 عملية زراعة كلى، و21000 عملية زراعة كبد، و600 عملية زراعة قلب على مستوى العالم.
غالبًا ما تأتي هذه الأعضاء من متبرعين قد يكونون أحياء، في حالة ما إذا كانوا سيتبرعون بعضوٍ مثل الكلى– يحتوي جسم الإنسان على كليتين- وقد يكونوا فاقدي القدرة على البقاء على قيد الحياة، مثل المتبرعين بالكبد أو القلوب مثلًا، والتبرع جائز للبشر جميعًا من أي عمر، لكن يُفضل أن يكون من قِبل الشباب، حيث أنَّ أعضاءهم أكثر صحة عن كبار السن، لكن لا بأس من تبرع كبار السن، ففي إحدى المرات، تبرع رجل يبلغ من العمر 92 عامًا بكبده لأحد الشباب وأنقذ حياته في الولايات المتحدة الأمريكية.
أعتقد أنَّ مبدأ التبرع هذا أيضًا لا يُعطي للطبيب الحق في قتل الطفلة، فهي لم تعطِ إشارةً بأنها موافقة على هذا التبرع، الأمر محيرٌ حقًا. لنتعرف أولًا على كيفية الحصول على الأعضاء.
تعرّف على أول عملية لزراعة القضيب في تاريخ الولايات المتحدة
كيف يحصل المرضى المستفيدين من زراعة الأعضاء عليها؟
الأمر ليس عشوائيًا يا صديقي، فهناك نظام لكل دولة فيما يتعلق بهذا الشأن، مثل: هناك بلدان تسمح بالحصول على الأعضاء من الأشخاص الذين سينالون عقوبة الإعدام، فغالبًا ما يكونون صغارًا في السن، ويتمتعون بصحة جيدة.
تتخذ بعض البلدان المرضى الذين يعانون من تلف قاتل في الدماغ كمصدر للأعضاء، وقد تأتيهم الأعضاء أيضًا من الأطفال الذين يُولدون في حالة مرضية صعبة الشفاء، ومن المتوقع أن يموتوا بعد الولادة بوقتٍ قصير كما في حالة الطفلة المريضة.
ما زالت حالة الطفلة المريضة مُحيرة، هل يجوز قتلها للحصول على أعضائها، لنجدة عدد كبير أم لا؟ الأمر مُحير للغاية، لكن نستطيع القول بأنَّ هذه الحالة مثال لمناقشة مثل هذه الأمور التي تحدث مع أي مورد محدود يحاول شخص واحد فقط الاستفادة منه، في حين أنه يمكن لأكثر من شخص الاستفادة منه.
مثال، في العناية المركزة، يمكن لشخص مريض أن يشغل سريرًا بها لفترة طويلة، بينما يمكن أن يشغل هذا السرير عدد من الأطفال المرضى لفترة قصيرة، في هذه الحالة، ستلاحظ أنَّ التضحية بهذا الشخص، أقل ضررًا من التخلص من عدد من الأطفال، ففي النهاية هو فرد واحد، وهم جماعة. لكن هل يجوز إخراج هذا المريض من سريره في مثل هذه الحالات؟ قبل الرد على هذا السؤال، سنتطرق قليلًا إلى مبدأ أخلاقي يسمى “النفعية”.
النفعية
وهي إحدى النظريات الأخلاقية الفلسفية تدعو لتحقيق أقصى قدر من الفائدة للناس عند اتخاذ قرار أخلاقي، والنظر إلى مجموع كل المنفعة، ويعمل هذا المبدأ على المساواة بين البشر، فإذا كان هناك منفعة لشخص واحد، يترتب عليها إصابة شخصين آخرين، فإنَّ هذا غير مقبول.
أرى بأننا إذا طبقنا نظرية النفعية تلك، فإنَّ أمر الطفلة المريضة، والشخص الذي بالعناية المركزة قد حُسم، لكن مهلًا، لنواصل تحليل الأمر سويًا، ربما نتوصل إلى حل آخر.
في حالة الطفلة المريضة
إذا نظرنا في الأمر، سنجد أنَّ قتل الطفلة المريضة والحصول على أعضائها، سيساعد بقية الأطفال الآخرين، فجسمها يحتوي على كليتان ورئتان وقلب وكبد وقرنيات، وغيرها من الأعضاء التي ستفيد عددًا أكبر من البشر بالتأكيد، فربما نستطيع إنقاذ خمسة أو ستة أشخاص، لكن ماذا عن تلك الطفلة؟ هل إنهاء حياتها، لن يسبب المزيد من الأذى؟
لننظر أولًا إلى مقدار الضرر الذي سيُصيب الأطفال الآخرين، فإذا لم تمت الطفلة المريضة، سيفقد الأطفال الآخرين حياتهم، من ناحية أخرى، إذا تساءلنا عما إذا كانت حياة الطفلة المريضة لها قيمة أم لا، تبعًا لنظرية النفعية، فمن المنطقي أنها لن تستفيد من حياتها، فهي لا تملك دماغًا مكتملًا، والدماغ هو مركز الوظائف، فهي حتى لا تملك القدرة على الشعور بالألم، وإذا كانت تملك شعورًا بالألم حقًا، فربما يكون هذا الشعور هو الإحساس الوحيد لديها، لذلك فمن الأفضل أن تموت هذه الطفلة بدلًا من الشعور الدائم بالألم.
سيرجيو كانافارو: الجرّاح الإيطالي صاحب أول عمليّة زراعة رأس بشري!
لنضع افتراضًا آخر
تخيل أنَّ لك زميلًا في العمل، ما رأيك أن نُطلق عليه اسم “ألكسندر”؟ ألكسندر شخص سيء الطباع، يسرق أشياء زملائه، يكذب، يسبب المشاكل، لا يحبه أحد، لا يملك عائلة ولا أصدقاء، يعيش بمفرده، من الواضح أنه سيكون من الأفضل أن يموت ألكسندر، فهذا هو السبيل الوحيد للتخلص من عبئه، لكن دعنا لا نتسرع في الحكم على ألكسندر، لنُحكم رأي نظرية النفعية.
إنَّ حالة ألكسندر تختلف عن حالة الطفلة المريضة، فألكسندر إنسان طبيعي، يحيا حياة طبيعية، لا يعاني من مشاكل صحية، لكن ألكسندر يتسبب في المشاكل، وحقيقة كونه يمتلك رئتين وقلب وكليتين وكبد، وغيرها من الأعضاء، كافية لإنقاذ حياة أشخاص كثيرين، ألكسندر شخص واحد فقط، لكن أعضاءه ستساعدنا في الحفاظ على حياة عدد أكبر من الأشخاص، وتبعًا لنظرية المنفعة، يمكننا القول “وداعًا، ألكسندر”.
لكن إذا افترضنا أنَّ حياة شخص واحد أقل قيمة من حياة شخصين، فهذا بدوره سيسمح لنا بقتل أي شخص للسماح بحياة عدد أكبر، وهذا بدوره سيسلب الطمأنينة من البشر، فلن يأمن أحد على نفسه عندما يذهب للطبيب في حادث ما، فهناك احتمال أن يقتله الطبيب، ويستخدم أعضاءه لنجدة عدد أكبر من الأشخاص! إنَّ اتباع نظرية كتلك ستحدث الكثير من المشاكل، وضررها كبير، حيث أنَّ فكرة جمع قيم حيوات الناس، من أجل تحقيق المنفعة، ستكون قاسية على أشخاص آخرين، وستسبب حالة من الفوضى في المجتمع، بالرغم من نفعها، لكن كيف يمكن حل هذه المسألة؟
الأمر محير للغاية، أليس كذلك؟ لكن لا بأس، لنتابع تحليلنا للموقف، لربما نجد رأي آخر فعَّال.
للفيلسوف “إيمانويل كانط” رأي آخر
كان للفيلسوف الألماني “إيمانويل كانط” (1724-1804) رأي آخر. فقد آمن بأنَّ لكل إنسان قيمة كبيرة جدًّا، تكاد تكون غير محدودة، فالبشر مميزون عن بقية المخلوقات، يمكننا القول بأنَّ البشر مخلوقات فريدة، فكل الأشياء الأخرى، يمكننا التعبير عنها بالأسعار، أو يمكن استخدامها للمقايضة، فمثلًا يمكننا استبدال جهاز الحاسوب بالدارجة النارية. أما عن البشر فهم أرقى من ذلك، فلا نستطيع قول أننا يمكننا مقايضة طفل بشري بالدراجة النارية! حتى وإن كنا بحاجة إلى الدراجة النارية، فلا يمكن استبدالها بالطفل البشري! وهذا يدعم رأي “إيمانويل”.
البشر ليس لديهم قيمة مادية، بل تكمن قيمتهم في كرامتهم، وتأتي هذه القيمة من قدرتهم على اتخاذ قراراتهم الخاصة، وتحديد أهدافهم، وفهم ما يحتاجونه، وضبط حياتهم بحيث يصبح لها قيمة، وتُسمى هذه القدرة “الاستقلال الذاتي”. البشر فقط هم من يستطيعون تحقيق هذه القدرة، والحصول على استقلاليتهم، الحيوانات لا تستطيع فعل ذلك، لذا فالبشري يتمتع بقيمة عالية، غير محدودة.
إذا قبلنا برأي “إيمانويل” فسنجد أنَّ مقايضة حياة إنسان بحياة إنسان آخر، ليس أمرًا مقبولًا، ولا يُضيف إلى القيمة البشرية مثلما يُضيف لقيمة الأشياء، حيث أنَّ قيمة حياة شخصين لن تساوي أكثر من حياة شخص واحد، ومنطق إنقاذ حياة خمسة أشخاص ليس مبررًا لقتل شخص واحد للحصول على أعضائه، وتوزيعها على الآخرين.
بالرغم من أنَّ الطفلة المريضة ولدت بدماغٍ غير مكتمل، وهذا سيسبب لها الكثير من المشاكل في المستقبل- إذا افترضنا أنها ستعيش – فهي في هذه المرحلة العمرية، مثلها مثل بقية الأطفال الطبيعيين في عدم القدرة على اتخاذ القرارات الشخصية، فمن الصعب أن يحصل الطفل على الاستقلالية في هذا السن الصغير، فالاستقلالية تتطلب الكثير من الوقت، حتى يستطيع الطفل الحصول عليها، لكن هل هذا يتعارض مع وجهة نظر “إيمانويل” فيما يتعلق بالكرامة؟
إنَّ الشخص البالغ، الذي يتمتع بصحة جيدة، ولكنه نائم الآن، يتمتع باستقلالية، وسيستردها من جديد فور استيقاظه، إذا افترضنا أنها مرفوعة عنه لفترة مؤقتة، أثناء النوم، لكنه يمتلك المقومات التي تبرر كرامته وقيمته كإنسان، أما عن الأطفال فهم نفس الشيء، لكن الفرق بينهم وبين الشخص البالغ، هو أنهم لا يزالون صغارًا، لكنهم سيحصلون على استقلاليتهم بعد عدة سنوات، أي أنَّ إمكانيات الطفل أيضًا تُبرر حقه في الاحترام كإنسان.
أما في حالة طفلتنا المريضة، فالأمر مُربك بعض الشيء، حيث أنَّ حالتها ميؤوس منها طبيًا، ويرى البعض أنها لن تصل إلى استقلاليتها في الحياة يومًا ما، فمن الأفضل أن يستفيدوا منها لإسعاف الآخرين.
ربما لمعضلة القطار رأي ما
في عام 1967، ابتكرت الفيلسوفة “فيليبا فوت” مشكلة أخلاقية وهي “معضلة القطار” الشهيرة، وتفترض هذه المشكلة أنَّ هناك سائق عربة يسير في طريقه وأمامه مسارين، أحدهما عليه خمسة رجال يعملون على المسار، والمسار الآخر عليه رجل واحد يعمل أيضًا، ولا يستطيع سائق العربة إيقافها، وفي هذا الموقف، يضطر لاتخاذ أحد المسارين، والنتيجة الحتمية هي الموت، إما لخمسة رجال، أو لرجل واحد، فما الحل يا ترى؟
أثارت هذه المشكلة جدلًا واسعًا في الأوساط الفلسفية وكذلك العلمية، بالطبع ليس لحل هذه المشكلة تحديدًا، فهذه التجربة الفكرية، واحدة من بين العديد من التجارب الأخرى، ولا يوجد سبب واضح لحصول هذه التجربة على هذه الضجة الكبيرة، لكن يمكننا القول بأنها نموذج للعديد من المواقف المشابهة، التي يعجز الإنسان عن حلها.
في عام 1976، جاءت الفيلسوفة الأمريكية “جوديث طومسون”، بتجربة فكرية مبنية على جوهر تجربة “فيلبيا”، حيث افترض أنَّ هناك جسر مشاة فوق مسار القطار، وعلى سطحه يوجد رجل يعرف أنَّ وضع العربات خارج عن السيطرة، ويجب إيقافها، ويوجد على المسار خمسة أشخاص، وبجانبه على الجسر رجل سمين، إذا ألقي أمام العربة، فسيوقفها، وسينقذ الخمسة أشخاص من الموت.
عزيزي القارئ، أود أن أخبرك أنّه عندما عُرضت المعضلة التي ابتكرتها “فيليبا”، أجمع الكثير من الناس على إنقاذ خمسة أشخاص والتضحية بالرجل الوحيد، لكن عندما أُجري التعديل، الذي وضعته “جوديث” والذي يعطي اختيار قتل الرجل السمين، صمت الكثيرون وعجزوا عن حسم موقفهم. في نهاية الأمر، وقتل الرجل السمين ليس فكرة جيدة على المستوى الإنساني، ناهيك عن أنَّ مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، لا يروق للكثير من الناس، مما جعل السيناريو الثاني للمعضلة مثيرًا للاهتمام، ومحيرًا بشكلٍ لا يُصدق.
يمكننا القول بأنه لا يوجد حل يا صديقي، فهذه المشكلة مثلها مثل الكثير من المشاكل الفلسفية، التي لم تُصمم بغرض الحصول على حل، وإنما لإثارة الفكر، وتقدير صعوبة حل المعضلات الأخلاقية.
إنَّ حالة الطفلة المريضة هي نموذج لبعض المواقف التي نتعرض لها في الحياة، ويصعب الاختيار فيها، عندما يكون المورد محدودًا، والاختيار قاسٍ، واختلفت الآراء في هذا الأمر، فهذه القصة معضلة أخلاقية من الصعب إيجاد حل لها، ما رأيك يا عزيزي القارئ؟ شاركني رأيك في حل هذه المعضلة.
بين الواقع وجنون الأطباء: هل ستتم زراعة رأس أحدهم في جسد ميت فعلياً؟!
إذا خُيرت بين قتل إنسان للمحافظة على حياة عدد كبير من البشر، ماذا ستفعل؟ بواسطة أراجيك - نثري المحتوى العربي
مجانا .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق