كورونا في زمن الإنترنت: كيف حوَّلت التكنولوجيا الرَسن إلى تاج وقلَّدَتْ العامة مناصب الأنبياء؟


موضوع كورونا في زمن الإنترنت: كيف حوَّلت التكنولوجيا الرَسن إلى تاج، وقلَّدَتْ العامة مناصب الأنبياء؟

فيروس كورونا بكل تأكيد هو حديث الساعة. جميع المنصات، صغيرة أو كبيرة، تضع اسم الفيروس في كل فيديو ومقال، وبات في غضون أيام فقط منذ ظهوره، المحتوى الأكثر رواجًا على محركات البحث الكُبرى. لكن في ظل وجود منصّات تتحرى الدقة الشديدة في نقل وتقديم المعلومات للجمهور، توجد منصّات أخرى تخلط الحقائق ببعض، وتعتمد على الأسلوب الرخيص لحصد الإعجابات وجذب تفاعل الناس.

أتتذكرون منشورات مواقع التواصل الاجتماعي الفاقعة للمرارة؟ أجل، أجل، مثل «عصفور برأس كلب، لا تخرج قبل أن تقول سبحان الله»، و «شاهد قبل الحذف: ملحد يتطاول على إمام كبير، والإمام أفحمه حتى احترق!». وغيرها من الأشياء التي تبعث على الغثيان، وتُشعرك لوهلة، أن الفيروس أتى كي يقي البشرية من شرور أفرادها فعلًا.

لكن للأسف، الفيروس إذا شاهد الذي يحدث الآن، لفرّ هاربًا إلى خارج المجرة، هؤلاء ليسوا بشرًا ليتم القضاء عليهم، هؤلاء ماكينات حرب عملاقة متسلحة بانعدام الوعي، ووهم العناية الإلهية.

اليوم سوف نتحدث عن كورونا في زمن الإنترنت، طارحين سؤالًا واحدًا: «كيف حولت التكنولوجيا الرَسن الذي يوضع حول عنق البهيمة، إلى تاج زائف على رأسها؟». احضروا كوبًا من القهوة (واحضروا لي معكم، أنا أحب القهوة)، انزعوا عنكم المعتقدات البالية، وتعالوا معي، لنكتشف سويًّا بحور التيه التي وصلنا لقاعها منذ أمد.

قبل أن ندخل في صلب الموضوع ذاته، يجب أولًا أن نتحدث عن مفهوم الإشاعة عمومًا، والإشاعة في زمن التكنولوجيا خصوصًا. 

ملامح الانحطــاط في الإعلام العربي – تقرير

كيف تُبنى الإشاعة؟

ناس يسيرون في الشارع - كورونا

أشيع عن فلان أنه سيء الطباع مثلًا، الإشاعة بالمُجمل هي نشر القول بين الناس، دون وجود سند ماديّ عليه. لتبسيط الأمر، إذا كنت متهمًا في المحكمة، وأتى الطرف الآخر بشهود يقولون أنك فيك العِبر، هل قولهم نهائي وبمثابة دليل يقدر على وضعك خلف القضبان للأبد؟ بالطبع لا. ولهذا يتم الطعن في شهادة الشهود على الدوام، لأنها تفتقر للدليل الذي لا يختلف عليه اثنان. أجل الشائعات تعتمد على المنطق، لكن مثلها مثل أي كيان أو شيء لا تستطيع أن تراه بعينك أو تلمسه بيدك، غير موجودة.

مع الوقت، باتت وسائل انتشار المعرفة أكثر وأكبر وأقوى، وباتت مواقع التواصل الاجتماعي أداة للضغط على الدول، بل وفضح جرائم سياسية واستغلالية كُبرى من قبل ساسة العالم. لكن بالرغم من أنها مفيد، هي مضرة كذلك. يجب أن تُبنى المعرفة على مصادر، وللمصادر أنواع.

المصادر إما أوليّة، ثانويّة، أو ثالثيّة. المصدر الأولي هو أول مجلة علمية أو هيئة موثوقة، نشرت المعلومة. الثاني هو موقع أخذ المعلومة عنها، وبسطها للجمهور. والثالث هو شخص فهم كلام الموقع الثاني، ثم أعاد تبسيطه. في كل مرة تنتقل المعلومة من وسيط إلى وسيط، يتم تشويهها بدون شك. ذلك التشويه هو الذي يخلق الإشاعة بمفهومها الحديث. ولذلك في عصرنا التكنولوجي نقول أن مفهوم الإشاعة تحول من (إشهار) إلى (تزييف).

لماذا تُبنى الإشاعة؟

فتى خارق - كورونا

دائمًا ما يوجد هدف خلف كل شيء، الأهداف في العادة تختلف من شخص لشخص، ومن هيئة لهيئة، لكن في هذا الزمن، يمكن وضع كل البيض في سلة واحدة، وبلورته في صورة بيضة كبيرة: الاهتمام.

أن يهتم بك الناس، هذا هو السبب الأول والأخير. الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، انعزاله النفسي عن المجتمع سيتسبب في تحطيمه من الداخل. لذلك يسعى الفرد دائمًا لجذب الانتباه وإعطاء قيمة ما لوجوده. تخيل معي أنك وحيد، ليس لديك إخوة، أهلك يسيئون معاملتك، وأصدقائك بعيدون عنك تمامًا خلال فترة العزل الصحي المنزلي هذه الأيام. لا تحب القراءة، ولا تريد تعلم أي شيء على الإنترنت، ماذا يمكن أن تفعل؟

تنام؟

تخرج للشرفة؟

تهاتف أصدقائك؟

كلها أشياء تُعطيك شعورًا مؤقتًا بالأهمية، أنت تريد شعورًا دائمًا بها. وهنا يأتي دور التكنولوجيا. بكبسة زر واحدة، تستطيع أن توصل مشاعرك إلى جميع قائمة أصدقائك وبكبسة واحدة منهم، يوصلونها إلى الآلاف. الاهتمام المتزايد بحديثك، هو الذي يحقق الأهمية المستدامة تلك. الحديث عن فيروس كورونا هذه الأيام هو العملة الذهبية بالطبع، لكن للأسف لا يحاول الجميع أن يكونوا مندرجين أسفل أنواع المصادر الثلاث، بل يشرعون في تزييف الحقائق، واختراع سطور خيالية من الدماغ، ثم يبثوها للعالم على أنها حقائق. وكلما زاد احترام المُزيِّف عند مستقبل الإشاعة، تحول الزيف إلى حقّ في غمضة عين!

وهذا ينقلنا للحديث عن آلية تفكير الشعوب قليلًا، وكيف للتكنولوجيا أن ساهمت بتسليط النفس على النفس، وتحويل الوهم إلى حقيقة.

الشعوب وقت الخوف: رقعة شطرنج تنزوي فيها القطع كلها، إلا الملك

إذا شبهنا الشعوب (خصوصًا العربية منها) برقعة شطرنج كبيرة، وأن أفراد الشعوب هم القطع الموضوعة عليها. في وقت الخوف، تنزوي كل القطع، إلا الملك (أو الملوك هنا بمعنى أصح). انزواء القطع يأتي من عدم القدرة على اتخاذ قرار سليم بدون العودة للملك، الملك الذي بدوره يستطيع الوقوف في منتصف الرقعة والحركة بسهولة بعد انزواء الجميع. وأي قانون يسنه الملك، يُنفَذ على الفور، حتى إن كان به ضرر على الرقعة كلها. لماذا يُنفذ؟ لأن الملك محبوب بالطبع.

وهنا يأتي دور تسييس الجهل يا رفاق. أن تكون جاهلًا بأمرٍ ما، هذا يسهل التحكم بك بدون  شك. مهما كنت واعيًا، يستطيع أحدهم إقناعك بأمرٍ ما إذا عرف ما الذي يُغذي جهلك، ولعب على أوتارك العاطفية. لتفسير هذا الكلام سنتحدث قليلًا عن أزمة كورونا المستجد، وما يحدث على أرض الواقع فعلًا هذه الأيام.

بجمهورية مصر العربية، حدث شيء ينم عن كوميديا سوداء حقيقية. خرج الناس في الشوارع مُهللين بعبارات دينية، بهدف رفع البلاء عن مصر وقتل فيروس كورونا. كل هذا في وسط (تجمعات) تساعد على انتشار الفيروس نفسه بين عموم الناس. نفس الأمر تمثل في عدم انصياع العديدين لغلق الكنائس والمساجد وجميع دور العبادة على مستوى الوطن العربي كله. هذا يجعلنا نتسائل، ما الذي غذَّى تلك الأفعال؟ الدين؟ الرغبة في رفع البلاء؟ أم الإيمان الأعمى بأشخاص بعينهم؟ بملوك الرقعة مثلًا؟

السيناريو الذي أدى لحدوث تلك المظاهرات، ينطوي على إيمان هؤلاء بالقدرة الإلهية على رفع البلاء، بالرغم من الحثّ المادي على ترسيخه. هذا ليس عيبًا على الدين، بل عيب على التنشئة ذاتها. الأديان دائمًا تقول أن تأخذ بالأسباب. مع مرور الوقت، ارتدى بعض البشر عباءة الدين، وصاروا يتحدثون باسم الإله، وهنا يأتي عنصر الخطأ البشري. في انتقال المعلومة من فرد لفرد تزيد نسبة خطأها، تخيل إذا وصلت معلومة صحيحة إلى شخص مُزيِّف؟ أجل، ستكون ما تعاني منه الشعوب العربية الآن هي النتيجة.

الذي تسبب في كل شيء هو الإيمان الأعمى بصنّاع القرار المحبوبين. صانع القرار هنا لا يُشترط أن يكون دينيًّا فقط، بل سياسيًّا أيضًا. وهذه آلية شهيرة تُستخدم على الدوام في (صنع الرأي العام). وهنا يستغل صاحب القرار انسياق الناس خلفه دون وعي، وبفضل ذلك يحركهم في أي اتجاه يريد. تلك الآلية تعمل بقوة على الشعوب معدومة الوعي والشخصية، والتي تتواكل دائمًا، وترمي أحمالها على الأديان والظروف المحيطة. هذه هي الشعوب العربية، شعوب متدينة على نحوٍ خاطئ، نحوٍ ترفضه الأديان ذاتها.       

كيف يقتل الإعلام العلم نفسه؟ عندما تتحول التخمينات عن جزئيات إلى حقائق عن كليات

لكن هل هذا يشفع لنا التسفيه من هؤلاء؟

أديان - كورونا

اللوم في الواقع لا يقع على الشعوب، بل على صنّاع القرار أنفسهم. في مرة، قال عالم الفلك الراحل Carl Sagan، بتصرُّف: 

إذا تطلب الأمر بعض الطقوس والخرافة من أجل الخروج من ليل يبدو أنه لا ينتهي، مَن مِنا لا يستطيع التعاطف والتقدير؟

أي أن ما يحدث في الشعوب العربية الآن ما هو إلا وسيلة رجل بدائي للتعبير عن حسرته ويأسه. لا يمكن لوم البدائي على بدائيته، لكن بالتأكيد نلوم العالم الذي حرص على أن يظل البدائي، بدائيًّا. وهذا بالطبع لسبب وجيه، إذا اكتسبت الدمية حرية الحركة، لثارت على الصانع.

ما يحدث الآن لا فائدة منه للأسف، أن تشعر بالأمان في بيتك هذا مسموح، لكن أن تفرض (أمانك الخاص) على غيرك، هذا غير مسموح بالمرة. أن تتضرع إلى إلهك أنت فقط، هذا مسموح، لكن أن تفرض (إلهك الخاص) على غيرك، هذا غير مسموح. خصوصًا إذا كان هذا الفرض لا يؤذي الآخرين نفسيًّا فقط، بل يساهم في قتلهم فعلًا. لن يتدارك البسطاء هول أفعالهم إلا عندما يرون الجثث تُسحب من أبواب دور العبادة، تلك الدور التي تخيلوا أنها ستحميهم، لكن في النهاية سَحب جثثهم رجال العلم. العلم الذي حاربوه ولم يلتزموا بأوامره، وبهذا ذاق الجاهل من كأس تيهه.

الحكومات حاليًّا تحاول رفع وعي الناس، هذا جيد، لكن هل انصاع الناس؟ لا، ليس الجميع. لماذا؟ السبب صناع القرار يا عزيزي، صناع القرار غير الرسميّين. هنا تتجلى عبقرية التكنولوجيا في تحويل الرَسن الموضوع على رقبة البهيمة، إلى تاج على رأسها.

الإله كصانع لفيروس كورونا

رَسن؟ تاج؟ ما هذا الكلام المعقد!

حصان - كورونا

ليس معقدًا على الإطلاق. قال الكاتب مصطفى صادق الرافعي في كتابه (وحي القلم):

أيتها البهائم، اخلعي أرسانكِ ولو يومًا.

الرَسن هو طوق يوضع على رقبة البهيمة من أجل التحكم بها وقيادتها بأمان. التكنولوجيا عندما شقت طريقها إلى تلك البهائم، أججت حاجتها للاهتمام، ووفرت سبلًا لإشباع تلك الحاجة. وذلك أعطى البهيمة شعورًا زائفًا بأنها حرة، وأن الرَسن الذي وُضع حول رقبتها، تحول إلى تاج فوق رأسها. وفجأة تحولت البهيمة، إلى عالمة، وتحكمت في عوام البشر!

لكن دائمًا ما يوجد رَسن، دائمًا ما يوجد قائد للبهيمة. ولن تُدرك البهيمة أنها حرة فعلًا، إلا عندما تتيقن أن الرَسن قائم قائم، لكن أن تختار البهيمة واضعه بنفسها، أفضل بمراحل من أن يُفرض عليها. أن يختار الناس قناعاتهم بأنفسهم، أفضل من أن تُفرض عليهم. وأن يتعبد الناس في منازلهم، أفضل من سماع الشيوخ والقساوسة الذي يحرضونهم على الخروج بالشوارع، وأن العناية الإلهية ستحفهم نحو الأعالي.

كتب صادق الرافعي ذلك السطر في محاولة منه لتفجير طاقة الغضب بالناس، وجعلهم ينزعون عن كاهلهم العادات والتقاليد البالية، بهدف الوصول للحرية الإنسانية التي تُعطي للفرد قيمة حقيقية أمام نفسه.

وفي الختام

التكنولوجيا فعلًا حولت الرَسن إلى تاج. لكن لن تكون هناك حرية حقيقية إلا إذا اختار الإنسان رَسنه الخاص عن اقتناع، لا أن يوضع عليه ويتم إيهامه أنه اختاره عن اقتناع فعلًا.

كورونا في زمن الإنترنت: كيف حوَّلت التكنولوجيا الرَسن إلى تاج وقلَّدَتْ العامة مناصب الأنبياء؟ بواسطة أراجيك - نثري المحتوى العربي

مجانا  .
المطور : أراجيك.   النوع : مجهول .
+3

 !  يتوافق هذا الموضوع مع جميع أجهزة .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تطبيقات مشابهة قد تعجبك :

المشاركات الشائعة