تدور أحداث رواية “The Invention of Morel – اختراع موريل” للكاتب “أدولفو بيوي كاساريس” حول شخص يهرب من حكم بالسجن المؤبد، فيدله أحد التجار الإيطاليين، على جزيرة منعزلة -تحتوي على متحف وكنيسة وحمام سباحة- يمكنه أن يجد فيها الأمان المنشود، بعيدًا عن أعين رجال الشرطة الذين يبحثون عنه، لأنها موطن لداء غامض، يقتل البشر.
بعد أن يستقر الرجل على الجزيرة، يكتشف أنه ليس وحيدًا، فهناك غرباء يشاركونه الحياة على أرضها، فتصعد في رأسه الاحتمالات عن تعقب الشرطة له، ووقوعه في مصيدة مدبرة من أجل القبض عليه، من جانب آخر هو على يقين أنه لم يصل إلى الجزيرة أي مركب أو طائرة أو أي منطاد، فكيف وصل هؤلاء؟
الأمر المثير للريبة أكثر، أنه بينما كان الرجل يتوقع أن يقع في أيديهم في أي لحظة، كان يدرك شيئًا فشيئًا أن هذا ربما لن يحدث، ليس لأنه أرسى خطة ممتازة في الاختباء، وإنما لأنه كانوا لا يرونه بالأساس.
يعيش البطل قصة حب شديدة الغرابة، مع “فوستين”، وهي واحدة من هؤلاء الغرباء، لكنه يُصدم باكتشاف أنهم مجرد صور متكررة أخذت لهم في وقت سابق على مدار أسبوع، يبثها جهاز غامض وقاتل، صممه عالم يدعى “موريل”.
عندما يدرك أن حبيبته تعيش في عالم أبديّ موازٍ لعالمه، يسعى إلى خطة بناء على هذه المعطيات الجديدة، هدفها أن يحظى بالأبدية مع حبيبته: أن يجعل الآلة تسجل صورته وهو بصحبتها، أو بشكل أدق، بصحبة صورتها.
اختراع موريل – الحب كمقاومة للموت
تعد رواية “اختراع موريل”، الرواية الأبرز في مسيرة الكاتب الأرجنتيني، أدولفو بيوي كاساريس، والتي حجزت له مكانه المتميز بين كتاب الفانتازيا في العالم، وقد تناول فيها مسائل عدة مثل الحب والوحدة، لكن الموضوع الأهم الذي يطغى على الرواية هو مقاومة الموت، والسعي نحو الأبدية.
فكرة مقاومة الموت هذه، وتحقيق الخلود، كانت أمرًا مؤرقًا بالنسبة لـ “كاساريس” نفسه، الذي عبر عن رفضه لتقبل حقيقة الموت بشكل حاسم حين قال إن أحدًا لم يسأله إذا عن رأيه في المجيء إلى الحياة، ولأنه جاء دون هذا السؤال، فإنه لا يريد أن يموت.
وقال أيضًا: “لا تعجبني فكرة الموت نهائيًا، ولو كان بإمكاني العيش 500 عام، سأفعل هذا بكل سرور، ولسألت: ألا أُعطى سنوات أكثر قليلًا؟”.
فكما كان “كاساريس” يسعى نحو تمديد حياته وتأبيدها، أعلن أيضًا بطل روايته عن رغبته في تحقيق الخلود، لكن عبر مقاومة الموت بالتخلي عن الخوف منه، لتكون مقاومة الموت بالموت ذاته، حين يقول:
“أعتقد أننا أضعنا الخلود، لأن مقاومة الموت لم تتطور، إتقانه يشدد على الفكرة الأولى البدائية: الاحتفاظ بالجسد حيًا. فقط يجب البحث عن احتفاظ بالوعي”.
يحتاج البطل الهارب من حكم بالسجن المؤبد إلى جزيرة منعزلة، ويسيطر عليه خوفه، إلى سبب قوي كي يختار مواجهة الموت، ولا يوجد أقوى من الحب ليفعل هذا.
“إن فوستين تهمني أكثر من الحياة ذاتها”.
لقد تحرر من خوفه عندما وقع في حب “فوستين”، تغيرت خططه تمامًا، ونسي لأي سبب غادر نحو الجزيرة، وعزم على أن يخاطر بأي شيء، من أجل أن يعيش مع محبوبته، ولو على شكل صورة أبدية.
نفسيًا، عندما كان بطل الراوية منشغلًا بفكرة الملاحقة البوليسية، لتنفيذ الحكم عليه، كانت تطارده الهواجس، ويتوهم وجود استراتيجيات ومؤامرات على الجزيرة تحاك ضده.
لكن كل هذا تبدل، لم يعد لهذه المؤامرات أي أهمية تذكر في وعيه، الذي صار مهووسًا بفكرة وحيدة: أن يبقى متأملًا فوستين إلى الأبد!
“لم أعد ميتًا، أنا عاشق”.
نحن جميعًا نريد الخلود
ربما وضع الكاتب في ذهنه عند كتابة الرواية، أن كل البشر -مثله تمامًا- يودون لو أن بإمكانهم أن يعيشوا حياة الخلود، لو أن الفرصة أتيحت أمامهم لمقاومة الموت، وملامسة الأبدية، لهذا آثر أن يكون بطل الرواية مجهولًا قدر الإمكان.
فكرة أن يكون البطل بلا اسم، ولا ملامح محددة وواضحة هي حيلة بارعة -وإن كانت بسيطة- لأنها تجعل القارئ يملأ هذا الفراغ بنفسه، يتلبس الشخصية، وكأنه هو نفسه البطل الذي يخوض رحلة ممتعة وغريبة نحو الأبدية.
يعزز هذا الاتجاه، أن الرواية تعتمد على صوتين سرديين؛ صوت البطل الذي يحكي قصته عبر تقرير يكتبه إلى مجهول، وصوت الناشر، الذي يتداخل أحيانًا، في هوامش الرواية، وأحيانًا يبدي اعتراضات وتصحيحات على معلومات أدلى بها البطل.
إن الكاتب بهذا يفسح للقارئ السبيل، كي يتعامل مع النص بشكل أرحب، كي يشارك في بطولة الرواية، بل وفي عملية التخييل، ليسد الفراغات التي تركها الكاتب، عن عمد، في أغلب الأحوال.
فلغة الرواية الغامضة -وإن كان يمكن توجيه اللوم إليها بسبب الأخطاء اللغوية وبعض التعقيدات غير المبررة- يمكن النظر إليها على أنها تستقبل بهذا الغموض تأويلات عديدة، وإمكانيات غير محدودة، يمكن للقارئ أن يقرأ بها النص.
من جانب آخر، لا ينبغي أن نتوقع لغة ضيقة عند قراءة عمل يعالج الأبدية. إنها أكثر الأشياء غموضًا في هذا العالم عند الحديث عنه. والكتابة عنه بلغة محدودة، يمكن اعتباره جريمة في حق النص!
العيش في متحف الأبدية
عقد الكاتب بين ثنايا النص، مقارنة بين أن يعيش الإنسان حياة غير مؤكدة، أو أن يذهب إلى الموت طوعًا، من أجل تحقيق الخلود مع من يحبه. العيش الأبدي مع المحبوب فكرة يجب اغتنامها بكل تأكيد، ولهذا لم يأخذ البطل وقتًا طويلًا حتى عقد أمره على أن يخضع للاختراع القاتل كي يحظى بأبدية مع محبوبته.
صحيحٌ أنه بهذا قد ضمن حياة الخلود، لكنه ليس خلودًا حقيقيًا تمامًا، هو بشكل ما خلودٌ مزيف، تكرارٌ لا ينقطع لتصرفات بشريّة حيّة. إنه خلود متحفيّ لأفعال بعينها سجلتها الآلة على مدار أسبوع.
واقع الأمر هنا، أن البطل لن يعيش حقًا معها، لأنه خارج عالمها، ولهذا لم تكن تراه، فكل ما سيمكنه منه الجهاز، هو أنه سيسجل لحظات تأمله لها، ليمنحه في نهاية الأمر تأملًا أبديًا، دون تفاعل حقيقي بينهما.
كان يعرف هذا قبل أن يموت، ويرضى به دون تذمر، لأنه كان يخشى أن تتعطل الآلة أو أن يموت هو، فتهجره حبيبته. لقد اختار مصيره إلى جوار “فوستين”، إنه عاشقٌ ولا يمكن لومه.
“يمكن أن تبدو الأبدية المتكررة، بغيضة بالنسبة للمتفرج، إنها مُرضية لأفرادها المتحررين من الأخبار السيئة والأمراض، يعيشون دائمًا كما لو كانت المرة الأولى، دون أن يتذكروا اللحظات السابقة”.
لكنه، وإن كان فعل هذا برضا، فإنه مثل أي عاشق، يأمل في المزيد، يطمح نحو المستحيل، أن يدخل في وعي فوستين، يتخيل أو يُمني نفسه -قبل موته بقليل- أن أحدًا سيخترع اختراعًا جديدًا، مثل اختراع موريل، ليتمكن من الدخول في وعي حبيبته، حتى تدرك وجوده ومن ثم حبه لها، ويوجه إليه هذا الرجاء في نهاية التقرير/الرواية:
“سأتوجه بالتوسل إلى الرجل الذي يقوم عليه هذا التقرير، والذي اخترع ماكينة قادرة على تجميع المناظر المفككة. ابحث عني وعن فوستين، أدخلني في ملكوت وعي فوستين. سيكون فعلًا رحيمًا”.
جولة في متحف الأبدية مع رواية اختراع موريل للكاتب أدولفو بيوي كاساريس بواسطة أراجيك - نثري المحتوى العربي
مجانا .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق