تبدو عطل الأعياد بمثابة شهيق طويل نلتقط فيه أنفاسنا، بعد مسيرة الأعمال المحمومة، ودائرة الروتين اليومي، نخلد فيها للوسائد باطمئنان، نلتهم السعادة مع سكاكر الصغار وحلويات العيد. حتى تداهمنا تلك اللحظة الفارغة! تلك اللحظة التي تقع وسط نهر الزمن اللاهث وتتجمد العقارب فيها فتبحث داخلك وحولك عن ما يمكن أن يملأها: فيلم؟ كتاب؟ أم نزهة مختلفة؟
بالنسبة لي تكون هذه العطل القصيرة بمثابة احتفال قرائي اختار فيه كتاباً بعشوائية تلائم نمط فوضى هذه الأيام، اسميه كتاب العيد وأغوص فيه بكل حواسي.
مررت بعشرات الأعياد، عشت فيها تجارب مختلفة مع كتب عديدة: منها ما كان اختياره في هذا التوقيت موفقاً ورسخ داخلي قراءة لا تنسى، ومنها ما كان اختياره مروعاً! وتحول لزومبي يزورني ليالي العيد الساكنة السوادء وأثناء غيبوبات نعاس العصر الطويل.
قراءات في فترة الأعياد
في هذا المقال سأستعرض معكم بعض هذه التجارب، ولن أنسى إضافة بعض النصائح المركزة للفوز حقاً بقراءة منعشة في هذه الإجازة القصيرة.
فرانكشتاين في بغداد
اخترت فرانكشتاين في بغداد دون الاعتبار لتنافر موضوع الرواية الرهيب مع توقيت (العيد). بدأت بها مساء يوم العيد بعد إرهاق التقبيل العائلي وردود التحيات المكرر، يتتالى السرد كثيفاً مسترسلاً وأنا أتابع ما يفعله بطل الرواية بتمهل ودقة، هو: (هادي العتاك) بائع كراكيب -أو روبابيكا كما تُسمى في مصر- يعيش في حي البتاوين وسط بغداد 2005.
اختلط ولعه بالأثاث القديم بشغفٍ مختلف، فوجد نفسه فجأة أثناء جولاته في المدينة يلتقط قطع اللحم البشري المتناثر حوله، ثم يلصقها ببساطة عند عودته لخرابته! كان يفعل ذلك كما يلتقط البضائع المستعملة من كل مكان ويلمعها وينظفها ليعيد استخدامها.
استفزه منظر الجثث حوله، نادته البقايا المرمية على أسفلت بغداد الحار، سواءً كانت ظاهرة على قارعة الشوارع، أو منسوفة بإهمال على الأرصفة: أحشاء كبد، ذراع و زند، فخذ، أنوفٌ وأحداقٌ ذات أهدابٍ سود. أشلاء الأوادم استفزت بائع الحاجيات المستعملة المخمور وجعلته يلمها، يقول في الرواية مبرراً فعله:
“إنها جثث يا عالم، لحم ودم مرمي على الطريق”.
دون أن أدري أصل للصفحة الثمانين، ثم … أغفو! أجدني في شوارع بغداد، سماءها السخام الأسود عوضاً عن السحاب، من حولي البنايات الصفراء المهدمة جزئياً، تحتي تتبقع الأرض بالدم.
أسمع صوت خطواتي وبيدي أحاول دفع أحشائي داخل بطني المبقورة، أسمع صوت مراوح هليكوبتر -سمعت هذا الصوت في مسلسل غرايز أناتومي في جزئه الثامن وهم في العراق- أسمع صوت مدافع بعيدة، حولي أناسٌ يركضون، ومن بعيد أرى آخرين يمشون على مهل يحملون أكياس البقالة السوداء، وفي الفضاء يتردد صوتٌ يصرخ:
ـ أنا الجثة المرقعة، أنا الأجزاء المفتتة الممزقة، جسدي عراق ضاع والعتاك صار عنده ضمير ويحاول يلمه.
استيقظ وسط الليل يبللني العرق، بجانبي الرواية مقلوبة كما تركتها، أشعل مصباح القراءة لأكمل الرواية المشوقة، لم يبدأ يوم العيد الثاني إلا وقد أنهيتها.
كانت المرة الأولى التي أقرأ فيها أحمد سعداوي، يملك سعداوي أدواته السردية بجدارة مما يجعلني متلهفة لقراءة بقية أعماله، ولم ينغص علي هذه التجربة القرائية المثيرة سوى توقيتها كما أشرت في بداية الفقرة.
يمكنكم التعرف على عوالم أحمد سعدواي الروائية وتفاصيل أكثر عن رواية فرانكشتاين في بغداد، في مقال الكاتبة سارة يوسف على أراجيك.
مطبخ زرياب
لا زلت أتحسر على ما فاتني من مهارات جدتي العزيزة في الطبخ، مثلاً: كيف تزن حلاوة التمر مع ذرات الملح أثناء صنعها وجبة الشتاء الأثيرة: عصيدة التمر بالسمن، أو طريقتها في رق العجين على الكفوف بخفة لصنع المرقوق. (أكلة شعبية سعودية عبارة عن رقائق سميكة تصنع من دقيق القمح الكامل).
في نهاية أحد الرمضانات بدأت بقراءة كتاب فاروق مردم بك “مطبخ زرياب” وانتهى به الحال لأن يكون كتاب العيد هذه المرة، فاروق باحثٌ ومترجم سوري فرانكفوني يعيش في باريس، استعار فاروق اسم زرياب لتوقيع مقالاته التي تطرق فيها -ربما للمرة الأولى- لفن الطبخ وثقافة الطعام العربية بمجملها في المشرق والمغرب، ونشرها في مجلة “قنطرة” الفرنسية.
تَنَكرَ فاروق تحت اسم زرياب وبدأ بكتابة وصفاتٍ شغوفة من مطابخ العالم أجمع، كان ينتقي الأطباق بروح زرياب الدقيقة المرهفة ويكتب وصفاتها بشعرية ملفتة، ذاعت أنباء هذا الزرياب الجديد في أوساط الموائد والأدب مما دفعه لكشف قناعه أخيراً وإصدار الكتاب كاملاً بالفرنسية.
يقول المؤلف في الكتاب:
“هو أبو الحسن علي بن نافع، لُقِبَ بزرياب وهو طائرٌ أسود اللون، بسبب دكنة بشرته وعذوبة صوته وحلاوة شمائله”.
“علم زرياب أهالي قرطبة إعداد المآكل البغدادية الأكثر تعقيداً، وترتيب أطباق الوجبة على الموائد الأنيقة، فأفتى بأن لا يقدم الطعام دفعة واحدة أو كيفما اتفق، بل يجب البدء بالحساء، تتبعه أطباق اللحوم والطيور المطيبة بالتوابل الحارة، ثم الأطباق المحلاة، فالحلوى المصنوعة من الجوز واللوز والعسل، أو الفاكهة المجففة المحشوة بالفستق والبندق. ونصح بتغطية موائد الطعام بأغطية من الجلد الناعم الرقيق بدلاً من شراشف الكتان الخشنة، وبين أن الكؤوس الزجاجية الفاخرة آنق على المائدة من آنية الذهب أو الفضة”.
“لا شك إذاً في أني كنت مغتراً بنفسي شديد الغرور، أنا العارف بكل ذلك ، حين استعرت خلال ست سنوات اسم زرياب لتوقيع مقالاتي المتواضعة في فن الطبخ”.
من خلال هذا الكتاب أتفهم أصل اللذة، والأسرار الدقيقة لطراوة معجون الحمص، وتناغم الحلو والمالح الذي يتميز به المطبخ البربري، سأعي كيف امتزجت اللذائذ كما امتزجت الحضارات في الإمبراطورية العثمانية، وسأتعلم احترام زيت الزيتون ودبس العنب مما يخولني إعداد طبق للذواقة، كما سأتمكن من امتزاج الخل بالمطيبات لصنع ألذ الإيدامات.
إضافة لأنني أدركت الفروق بين بقلاوة حلب والبقلاوة التركية، وعرفت سر تسمية الكنافة، ولمن تدين إيطاليا بسر عجائن الباستا المصنوعة من القمح والسميد.
كان اختياري لقراءة هذا الكتاب خلال العيد موفقاً بالفعل! فهو لذيذ المحتوى، مشوق الإخراج. يحوي مقدمة في رأس كل فصل عن صنف من الأصناف إضافة لعدة وصفات متفاوتة شرقاً وغرباً. قام فؤاد بتصنيف محتواه بحسب أنواع الطعام المزكاة من قبل زرياب الأصل:
“مدائح حيث يثني زرياب على أربعة عشر صنفاً من الفواكه والخضروات وعلى الكسكسي والأرز والبرغل موضحاً أقواله التي تجمع بين الجد والهزل بوصفاتٍ مطبخية مُجَّربة”
الفهرس: في الباذنجان، في الفول، في الزعفران، في المشمش، في الزيتون، في التمر، في اليقطين، في الطماطم، في التين، في الكسكسي، في الأرز، في البرغل، في العنب، في الأرضي شوكي، في التفاح، في الحمص، في الفستق، ليختتم الفهرس بمذكرات رحلته التي استوحى منها فكرة هذا الكتاب، ومعجم الذواقة الصغير.
من إصدار كلمة الإمارتية، ترجمه عن الفرنسية: د. جان ماجد جبور في ٢٢٥ صفحة من القطع الكبير.
نعيشها لنرويها
تحضرني تفاصيل هذه القراءة الفريدة في أحد الأعياد رغم مرور عدة سنوات، أذكر كيف انتشلتني سيرة ماركيز “نعيشها لنرويها” التي خطها ينفسه من تخبطي، وكيف عدت عبرها للقراءة والكتابة.
“ليست الحياة ما عاشه المرء، بل ما يتذكره وكيف يتذكره كي يرويه”.
قرأت هذه السيرة بترجمة رفعت عطفة وبنشر دار ورد وفي 515 صفحة من القطع المتوسط، لقد صمدت تلك النسخة الفولاذية أمام كل الظروف والانتقالات، وأعدت مصافحتها مرات عديدة، عبرها دلفت لأول مرة لعالم ماركيز بطريقته الحكائية التي لا يشبهه فيها أي كاتب، وشعرت بحسرة إزاء قطمة النهاية في آخر صفحة، لأدعو مع بقية القراء حول العالم أن يستأنف كتابة سيرته حتى مات وتضاربت الأقوال بين أن يكون قد استكمل كتابتها أم لا.
كان مشهد البداية يتكرر داخل عقلي كشريط فيديو فاسد يكرر اللقطة: ماركيز وأمه وهما في القطار لزيارة قرية جده (أراكاتاكا)، وحوارهما في البداية:
“شقت طريقها بمشيتها الرشيقة بين طاولات الكتب المعروضة، وانتصبت أمامي تنظر إلى عيني بابتسامة ماكرة من ابتسامات أحسن أيامها، ثم قالت لي قبل أن أتمكن من القيام برد فعل: ـ أنا أمك”.
تبدأ رحلتهما بالقطار لتلك القرية شبه المهجورة، ومع صوت عجلاته الرتيب يروي ماركيز في قصة حياته لنا، متنقلاً بين حُقبٍ مختلفة وذكريات موغلة في البعد، لنتعرف على ماركيز قبل أن يصبح ماركيز الأدب السحري اللاتيني، كيف شق طريقه وكيف كانت قراءاته الأولى وكتاباته، وكيف أنقذ الصبي المراهق خياله حين رسم معلميه كرسومٍ كاريكتورية خففت عليه وطأة الدروس، وقد أخبره حدسه أن هذا الخيال أثمن ما يملك، وقد كان محقاً.
“اليوم أعي أن مظهري الذي كان لمتسول، لم يكن لأنني كنت فقيراً ولا شاعراً، بل لأن طاقاتي مركزة بعمق على عنادي بتعلم الكتابة”.
لقد أضافت قراءتي لهذه السيرة بعداً مرحلياً في رحلتي كقارئة، حيث صرت أؤرخ قراءاتي لما قبل مرحلة ماركيز وما بعدها، فبعدها اندلقت على النتاج الماركيزي بشكلٍ محموم، وغصت في عوالم الأدب اللاتيني المتفجر، وغدت هذه السيرة بمثابة عراب لقراءاتي، أو لعلها شيفرة لمغارة علي بابا خاصتي، ولو كان من ندم أو تنغيص تجاه تلك التجربة لكان توقيتها الذي جعلني شبه باكية وفوضى الأعياد تقتحم استرسالي المذهول في التهام تفاصيل حياته، وطريقة حكيه وكفاحه الذي تحدى فيه سلطة أبيه، وراهنه على خياله ذاك، ورأينا جميعاً كيف ربح غابرييل غارسيا ماركيز الرهان باكتساح ساحة الأدب حول العالم.
كالماء للشوكولاتة
قرأت هذه الرواية بشوقٍ حقيقي، وحين وصلتني اعتبرتها بمثابة هدية عيد، لطول انتظاري وفوزي بها، حتى أنني حرصت على طلب نسختين، أهديت إحداها لصديقة في المغرب.
أذكر حلوى العيد في تلك الأيام، كانت بمذاق الشوكولاته الداكنة والفريز ممزوجة باعتناء بذرات الفلفل الأسود، كنت أقضم لوح الشوكولاته الأسود و أقرأ الرواية الشهية صفحة، صفحة.
“الدعوة إلى المائدة وإلى الفراش تكون لمرة واحدة فقط”.
تستهل الرواية بهذه الجملة وهذا يجعلني أقبض على دفتي الكتاب بحرص. أقرأ فصول الرواية المقسمة لشهور السنة الميلادية، والمعنو باسم وصفات الطعام المكسيكية الشعبية، أغوص في عالم مطبخ الحب ولذائذ الجدة تيتا، المروية على لسان الحفيدة طوال صفحات الرواية الـ ٢٥٥، خلال ثلاث أيام غاب فيها الزمن، وجعلتني لاورا إسكيبيل أسكن بين روائح الورد المطهو تارة، وروائح الكبريت العطنة تارة، وروائح ومذاقات لم أتخيلها تارة أخرى! خائضة صراعات المنزل التقليدي الكبيرة بين ثلاث شقيقات وأمهن المكسيكية الحازمة والطاهية الصماء.
هذه الرواية كتابٌ بهيج، مشوق، وخير ما يُقرأ في أيام الأعياد، وأصوب مايمكن أن يصفها ما كتبه (الكاتب نزار الحمود) عنها في قراءته الرائعة في مقاله السابق على أراجيك:
“يمكن تصنيفها كفاتح شهية؛ فاتح شهية للطعام والطبخ والقراءة لكتاب أمريكا اللاتينية والحب والتمرد”.
والآن.. كقارئ: كيف تنجو من ورطة الأعياد؟
- اقرأ لكاتبة: ليس تحيزاً، لكن الكتابات النسائية ممهورة بالقص الأنثوي المشوق.
- اختر كتاباً لا يتجاوز المئتي صفحة: من الجيد لك أن تشعر بالإنجاز حين تقرأ الكتاب كاملاً في هذه الإجازة.
- اقرأ عن مواضيع جديدة: كن جرئياً في اختيارك لموضوع الكتاب.. (كتاب عن الطعام، رواية عن القطط، قصة أطفال طويلة، حكاية من الفلكلور، إلخ).
- اختر كتب اليوميات والسير القصيرة.
كيف كانت قراءاتكم هذا العيد؟
ورطة القارئ في الأعياد: نصائح لقراءة منعشة خلال أيام الإجازة القصيرة بواسطة أراجيك - نثري المحتوى العربي
مجانا .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق