أوّل ما يخيل إلى أيّ منّا عند الحديث عن العيد هو لقطات من ذاكرة مليئة بالبهجة، موائد عائليّة عملاقة مما لذّ وطاب، أزياء جديدة، هدايا، والكثير من الأمنيات بالخير والصحّة والفرح. ذاكرة البهجة هذه ليست نفسها عند الجميع، فالعيد بالنّسبة للبعض كابوس حقيقيّ مغلّف بمشاعر القلق والحزن والكآبة. فما هي كآبة الأعياد يا ترى؟
من المهم التنويه -وقبل أن نبدأ الحديث عن كآبة الأعياد يا رفاق- بأنّنا لسنا بصدد الحديث عن العيد كطقسٍ دينيّ، ولا عن عيد الأضحى على سبيل الحصر؛ وإنما المثال. مع التأكيد على أنّ حديثنا مقتصر ومحدّد بظاهرة نفسيّة توقظها الأعياد كفعاليّات اجتماعيّة وطقوس وتقاليد وليست ناتجة عن موقف أو توجّه دينيّ من أيّ نوع.
تعريفٌ بمفهوم كآبةِ الأعياد
بالعودة إلى صلب حديثنا، وبتجاوز تعريف الاكتئاب كاضطراب -خاصّةً وقد أصبح من أشيع الإضطرابات النّفسية في العصر التفاضليّ والتنافسي الذي نعيش فيه- فحالة كآبة الأعياد هي جزئية فرعية تابعة للاكتئاب وليست مرضًا أو اضطرابًا نفسّيًا بحد ذاتها. فالأدق أن نسميها (ظاهرة نفسيّة)، دون أن يقلّل ذلك من جديّة الموقف أبدًا.
عمومًا، اتهم الخبراء العديد من العوامل التي يمكن أن تدعم ظهور هذه الحالة لدى البعض أكثر من غيرهم ومنها:
- العزلة الاجتماعيّة: الانعزال الإجتماعي من أشيع مسبّبات الاكتئاب عمومًا، والاكتئاب الموسمي واكتئاب الأعياد خصوصًا. فالأجواء المليئة بالتفاعل والاجتماعات العائليّة تشكّل حملًا ثقيلًا على الأفراد المعتادين على التفاعل ضمن دائرة ضيّقة من النّاس. ومن غير المستغرب أنّ يشكّل التواصل في هكذا مناسبة تحديًّا بالنّسبة لهؤلاء.
- الإجهاد والتعب: عندما يكون عملك طويلًا ومجهدًا، ثم يأتي العيد على شكل فرصة للراحة واستعادة الطّاقة؛ سيكون من المحبط جدًا أن يسيطر ضجيج الاجتماعات العائليّة والاحتفالات على أيّام عطلتك لتزيد من تعبك ومن شعورك بالإرهاق. ناهيك عن أن عطلة العيد بالنّسبة للبعض مجرّد إلهاء عن العمل، وعائق لا مبرّر له ضمن جدول الأعمال المزدحم.
- التوتّر والقلق: فإذا كنت مصابًا بالاكتئاب مسبقًا، أو الحزن لأيّ سبب، فمن الممكن أن يزيد صخب العيد من التوتّر والانزعاج.
- الإفراط في صرف الأموال خلال العيد والوقوع في ورطة ماليّة لاحقًا؛ قد يسيطر عليك الشّعور بالتوتر خلال العيد بسبب قلقك حيال ما صرفته وحول كيفيّة استعادتك لخسارتك في وقت لاحق.
- وجود ضغط مالي: حيث الضغط يُشعر الشّخص بالحرج من عدم تمكّنه من المشاركة في التقاليد والشّعائر التي تتطلّب دفع الأموال.
- العجز عن تمضية الوقت مع العائلة لأيّ سبب كان (تباعد البلدان، فقدان أحد الأهل أو الأحباب، إلخ).
- التوقعات غير المنطقيّة لعطلة العيد أو لما يجب أن تسير وفقه طقوسه.
- عدم الانتماء للمعتقدات والشعائر التي يمثلّها العيد.
أبرز أعراض كآبة الأعياد
لعلّ أكثر أعراض كآبة الأعياد شيوعًا هو الشّعور بالحزن المستمرّ أو المتكرّر خلال مواسم الأعياد، علمًا أنّ هذا الشّعور يمكن أن يختلف في مدّته وشدّته من شخص لآخر. أمّا عن الأعراض الأخرى المرافقة لكآبة الأعياد، فنذكر ما يلي:
- فقدان الاهتمام بالأنشطة المختلفة، ليس فقط أنشطة العيد، وإنّما حتى الأنشطة التي يستمتع بها الشّخص عادةً.
- اضطراب القدرة على اتخاذ القرارات وخاصّة فيما يتعلّق بالنّزهات أو إنفاق الأموال.
- تبدّل عادات النّوم سواء كان على شكل إفراط في النّوم أو أرق.
- صعوبة في التركيز، سرعة الغضب وتفضيل البقاء وحيدًا.
- الشّعور بالتّعب وانخفاض الطّاقة.
لسوء الحظ، يلجأ النّاس إلى حلول خاطئة وغير صحيّة لتجاوز مشكلاتهم؛ كاللجوء إلى الإفراط في الأكل أو المشروبات. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ تبدّل عادات النّوم يمكن أن يجعل أعراض الكآبة أكثر وضوحًا وشدّةً.
الأعياد ومجريات العام الحاليّ
لا نستطيع الحديث عن المشاعر السلبيّة خلال الأعياد دون الحديث عن ما يمكن أن يزيدها سوءًا أو حتى أنّ يزيد من عدد من يشعرون بها، وخاصّة في الفترة العصيبة التي يمرّ بها العالم اليوم. وكل هذا يصب في مفهوم كآبة الأعياد بدون شك. فاليوم ومع كلّ ما تشهده بلادنا والعالم من دمار وانهيار صحّي واقتصادي ومجتمعي عام، أصبحت البهجة والمتعة بالأعياد أصعب تحقيقًا.
وإذا أردنا أن نضع جدولًا زمنيًا لبداية الانهيارات على كافّة الأصعدة، سنبدأ من الأزمة الاقتصاديّة العالميّة التي بدأت بين عامي 2007-2009 وسوء تدبير الحكومات لهذه الأزمة، وما تلى ذلك من عجز واضح في تدبير الأزمات اللاحقة. وتحديدًا ما شهدناه من كوارث بيئيّة وصحيّة في أواخر العام الفائت وبداية الحالي؛ بدءًا من الحرائق التي فتكت بمساحات خضراء شاسعة على امتداد الكوكب، وليس انتهاءً بجائحة فيروس كورونا التي تحتل اليوم المرتبة الأولى على قائمة المخاطر التي تهدّد الوجود البشريّ.
وبوضع ما سبق جانبًا، فإنّ تسارع عجلة التطوّر الرقمي وتزايد الاستغناء عن الخدمات البشريّة مقابل الآلات في الدول المتقدمة، إضافة إلى الحروب والنزاعات الأهليّة في الدول النّامية؛ جعلت ملايينًا من النّاس يخسرون وظائفهم -أو بأحسن الأحوال يتقاضون أجرًا زهيدًا مقابل أعمالهم- وبالتالي أصبح تأمين أبسط مستلزمات الحياة اليوميّة تحديًا حقيقيًا، فكيف إذًا مصاريف الأعياد. وهذا عزز من حالة كآبة الأعياد للأسف.
لكنّ مقالي هنا لا يهدف إلى إفساد البهجة، وإنّما ربّما لإيجاد تبرير ولو جزئي لما قد حلّ بالأعياد. ولتقديم -ولو بشكل جزئيّ أيضًا- بعضًا من الحلول التي قد تكون مفيدة في قضاء أوقات أقرب إلى الإيجابيّة منها إلى الكآبة والحزن.
بعض نصائح علم النّفس لقضاء فترة العيد بشكل أفضل
افهم ماهية ما يحدث
لعلّ أوّل وأهم نصيحة يقدّمها لك علم النّفس هي أن تفهم ماهية ما تشعر به وتحدّد طبيعته بدقّة. بمعنى أن تحدّد مصدر قلقك خلال العيد؛ الحزن على فقدان شخص عزيز، القلق من المصاريف الزائدة، أو أيّ من الأسباب التي ذكرناها في الأعلى.
تقبّل الواقع وكن أكثر مرونة
ولعلّ ما يأتي ثانيًا بالطّبع هو التقبّل؛ إذ أنّ من الطبيعيّ أن تشعر بأيّ شعور كان وليس عليك اصطناع أيّ مشاعر سعادة مزيّفة، بل قد تنعكس محاولات التزييف هذه سلبًا عليك وتزيد الوضع سوءًا خاصّة إذا باءت تلك المحاولات بالفشل.
هنا تأتي أهمّية النصيحة الثالثة التي تدعوك لأن تكون أكثر مرونة في تقبّل واقعك؛ فلا حرج أبدًا من الحزن وحتى من البكاء على غياب الأحباء، ولكنّ حاول مثلًا أن تركّز على من وفّقت ببقائهم وحضورهم حولك وتسعدَ بوجودهم. حاول كذلك أن تستثمر ما توفّره مواقع التواصل الاجتماعي من خدمات وخصائص تقصّر المسافات بشكل كبير وتجعل المسافر حاضرًا. أمّا في حال كانت الضائقة الماديّة هي المشكلة، حاول أن تحدّد المبلغ الذي يمكنك إنفاقه دون أن يؤثّر على ميزانيتك ومخطّطاتك الماليّة الأخرى. وإن لم يكون متوفّرًا أساسًا، اكتفِ بالحد الأدنى من الواجبات الماديّة دون الشّعور بالإحراج. وبذلك ستتخلص كم كآبة الأعياد مع الوقت.
خفّض من سقف توقّعاتك عن العيد
اقبل بما هو موجود واسعد به، فالعيد ليس شرطيًّا ولا تبنّده قواعد وتقاليد وأعراف. ركّز على المشاعر الصّادقة ونشر الطاقة الإيجابيّة في العيد بدلًا من إجهاد نفسك بالتركيز في الماديّات والالتزامات.
حسّن من تواصلك مع الآخرين
يساعد التواصل وتجنّب الانعزال على المشاعر خلال العيد. ففي العيد يتناسى أغلب النّاس همومهم ويغلب على الحوارات طابع المرح والضّحك وتبادل الدعوات والكلمات الطيّبة، قد تساعد هذه الأجواء على تحسين المزاج. قد يفيد التطوّع في عمل خيريّ خلال العيد أو تقديم الخدمات للنّاس على التواصل بشكل أفضل.
ولعلّ الأهم من التواصل مع الناس في العيد، هو أن تضع خلافاتك جانبًا وتحاول أن تجعل العيد فرصةً لإصلاح الأمور العالقة. أو على الأقل تجاهل ما لا يمكن إصلاحه وتقبّل الآخرين كما هم دون محاولة إصلاحهم أو تغيير طباعهم.
لا تتخلى عن عاداتك
فقد يكون سبب كآبة العيد لدى البعض هو في تبدّل الروتين الصحيّ المعتاد، كالعودة إلى الطعام الغني بالسكر والمشروبات عالية السعرات الحرارية والسهر حتى وقت متأخر من الليل. إذا كنت ملتزمًا بنظام غذائي محدد قبل العيد أو بنمط معيّن من الروتين اليومي ولا تجد مرونة كافية لضبط التبدلات خلال العيد حافظ على روتينك؛ فالتزامك بالحمية رغم كل المغريات، أو سماحك بالتجاوزات الصغيرة فقط لن يساعدك في تغلبك على الكآبة فحسب. بل سيزيد من شعورك بالرضا من نفسك وبالتالي سيقلّل كثيرًا من مشاعر الضّغط والإنزعاج.
وتذكر كلمة واحدة: استرخِ
كنت قد أخبرتك في سياق سابق أن تتواصل مع الآخرين وتشارك بشكل أكثر فعالية في المظاهر الاجتماعية للعيد، ولكن دون أن تحظَ ببعض الوقت لنفسك، ولعاداتك التي تحب القيام بها بنفسك. اذهب مثلًا في نزهة مسائية تراجع فيها أحداث اليوم وتحدّث نفسك عن شعورك تجاه كل هذه الأحداث. كله هذا سيساعدك على التخلص من كآبة الأعياد يا صديقي.
وقبل الختام، لا بدّ من التذكير بالفرق الكبير بين الكآبة خلال العيد- والذي كان موضوع حديثنا في جميع السّطور السّابقة- وبين اضطراب الاكتئاب الرئيسيّ أو حتى الاضطراب العاطفي الموسمي.
كذلك، لا تتردد في استشارة الطّبيب إذا كانت مشكلتك مسمرّة طوال العام أو إذا كنت تعاني من أيّ اضطراب مزاجيّ أكثر جديّة وأهميّة.
وفي الختام، أتمنى للجميع عيدًا سعيدًا، وكل عام وأنتم بخير.
كآبة الأعياد: عندما لا يكون العيد سعيدًا بواسطة أراجيك - نثري المحتوى العربي
مجانا .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق