لماذا نكتب كل يوم؟ ولماذا نسعى لتحسين ملكة الكتابة عندنا ككتاب؟ هل نحن بذلك نسعى لتحسين العالم أم هو تحسين لذواتنا كما رجح ريك مودي حين قال: “أظن أنني عندما أكتب -أو بشكل أدق- متى ما كتبت، سأكون إنسانًا أفضل وأكثر سلامًا؟”. أو كما قالت ميريدث ماران محررة كتاب (لماذا نكتب) الشهير -والتي جمعت فيه آراء مجموعة كبيرة من الكتاب: “أكتب الكتب لكي أجيب على أسئلتي”.
صدقًا، ما هي التعويذة التي نطقناها حتى سُحرنا بأعاجيب الكلمات وصار العيش بدونها مجازفة قد تنهينا وتنهي كينوناتنا؟ أم أننا نمضي بكتاباتنا عقدًا مع الخلود ألّا نفنى، ونبقى أحياء في كلماتنا وحروفنا إلى أن يرث الله الأرض وما عليها؟
أما أنا فاكتب لأعرف عن نفسي أكثر. فاليوم الذي قررت فيه الكتابة هو ذات اليوم الذي تجردت فيه من كل الأكاذيب التي عشتها منذ ولادتي. فالكتابة في آخر المطاف هي شكل من أشكال البوح، وبفضلها أنا أقترب من ذاتي كل يوم، وبها سأعيش بصورتي الأصلية؛ مجردة من أي زيف.
قد تبدوا أسباب الكتابة متداخلة، كالأمواج التي تروح وتجيء، لكنها تبقى أمواجًا عاتية مرفقة بكل ما يحدث حولنا وفينا، إلا أنها كلها أسباب جيّدة للكتابة وتبقى دافعًا لإكمال المسير نحو المكانة الروحية التي يسعى لها الكاتب. ففعل الكتابة في نظري هي فعل روحي، وأهدافها الروحانية أكبر واشمل من أية أهداف أخرى.
كيف بدأ سحر الكتابة يا ترى؟
يقول ماريو باراغاس يوسا في كتابه (رسائل الى روائي شاب):
الميل هو نقطة الانطلاق التي لا بدّ منها، كما أنّه استعداد فطري ذو أصول غامضة، يدفع بعض الرجال والنساء إلى تكريس حياتهم للكتابة.
على طول كتابه الرائع، كان يوسا يؤكد أن الكتابة هي دودة تنخر رأسك وتأمرك بالكتابة، وهي لا تهدأ إلا بعد أن تقوم بالعمل الذي طلبته منكز كما أنها لا تتركك بعدها، فهي تسعى دائمًا لإخراج أفضل ما فيك. لذلك يشتعل رأس الكتّاب بالأفكار، فلا يرتاحون من آثار الحروق والاشتعال إلا بإخراج الأفكار في أعمال أدبية وعلى أوراق خارج رؤوسهم.
إذًا هل تتحكم الكلمات فينا؟
عن الكتابة قالت جين سمايلي:
أفضل وقت قضيته ككاتبة كان أثناء كتابة روايتي الثالثة، شعرتُ بأن هناك من يتلاعب بي من بعيد. بدا وكأن الشخصيات كانوا يستخدمونني كسكرتيرة لكتابة قصصهم.
أما تيري ماكميلان فقالت:
كتبي تُقاد عبر شخوصها، وليس عبر حبكةٍ روائية أو شيء من هذا.
ربما الكتابة فعلًا دودة كما وصفها يوسا في كتابه، وقد لا يقتصر فعل التحكم في شخصيات الروايات فقط، بل حتى النصوص المختلفة تنطق أحيانًا أن هناك ما ينقصني. هناك عناوين عليك البحث عنها أكثر أو إضافتها إن لم تكن موجودة أصلًا.
و أعتبر أن أهم نصيحة في الكتابة، هي أن يمارس الكاتب ممارسة الجلاد على كتاباته، فيكون صارمًا معها ويحذف أي نص يفسد العمل أو يعيق فكرته، حتى ولو أعجبه أو أخذ في إحاكته وقتًا طويلًا و عناءًا كبيرًا. لهذا علينا أن نستمع جيدًا لنصوصنا وأن نستشعر الرابط الروحية بيننا وبينها، لنعرف حقيقتها وما تريده هي لنفسها.
لكن ماذا لو لم تأمرنا الدودة بالكتابة؟
أكثر ما يخشاه الكاتب أن يستيقظ صباحًا ويجد أنه قد فقد القدرة على الكتابة، ومع كل حبسة كاتب يتعرض لها، يأكله الرعب من الداخل ويرميه في ركن سحيق مظلم، يصعب وصفه. لكن إيزابيل الليندي كانت قد وصفته حين تعرضت له بعد كتابتها لكتابها (باولا) حيث قالت: “الأمر أشبه بابتلاع الرمل. إنه مرّوع”. حينها أكدت أنه من أكثر المواقف رعبا التي تعرضت لها.
لكن من الجيد أن تتوقف الدودة أحيانًا، لتأخذ عطلة لترتاح من عناء النحيب في رؤوسنا. فعقولنا تحتاج إلى زراعة أفكار جيدة لنحصد محصولًا جيداً في موسم الحصاد. إنه الموسم التي تستيقظ فيه الدودة وتأمرنا بالكتابة مرة أخرى.
متى علينا الكتابة؟
قرأت مرة عن هرم تقسيم الأعمار بالنسبة للإنجاز، وعندما اسقطت ما جاء فيه على الكتابة، وجدت أن سن ما دون العشرين، هو سن جمع المعلومات المختلفة، إذا هو سن القراءة والاطلاع. سن العشرين والثلاثين، هو سن الانطلاق في التدرب على الكتابة والتأليف. أما ما فوق الأربعين فقد يكون السن المناسب لتعلم النقد البنّاء الذي يفيد الكاتب، القارئ، وأيضًا الناقد بحدّ ذاته.
وقد يكون هذا التقسيم صحيحًا أو لا، فهو اجتهاد شخصي منّي لإسقاط هرم الإنجاز. لكن هل يعد هذا التقسيم صحيحًا؟ اعتقد انه صحيح بشكل نسبي، إذ أن النشر في سن صغيرة قد لا يكون مناسبًا. للنشر وتلقي النقد وآراء الناس الكثيرة تحتاج نضجًا فكريًّا واجتماعيًّا كبيرًا. والسن الصغير قد يقدم نتيجة عكسية مضرة للكاتب الصغير.
أما فعل الكتابة في حدّ ذاته فلا أرى أن له عمرًا محددًا، وكلما بدأ الإنسان في التدرب على الكتابة في وقت مبكر كانت فرص نضجه الأدبي أكبر.
هل الكتابة تخص الكتاب وحدهم؟
أؤمن أن الكتابة راحة ودواء للنفوس، وبها يستطيع الشخص اكتشاف ما بدواخله وما تخبئه أفكاره. فالتعبير عن الحالة النفسية بكلمات بوصفها بشكل مباشر، يساهم في الوصول إلى أسبابها وقد تكون هي بذاتها سببًا في إخماد بعض المشاعر التي إذا ما استمرت؛ التهمت صاحبها.
قد تكون الكتابة الاحترافية وحدها ما تستحق النشر، وصاحبها يسمى كاتبًا. لكن فعل الكتابة هو فعل علاجي عظيم، ولو استعمله البشر؛ لتخلصنا من نسبة لا بأس بها من العقد النفسية ولتناقص معدل الجريمة جرّاء الكبت وتجاهل المشاعر الدفينة التي تكون عواقبها جدًا وخيمة.
فعل الكتابة يفرض على الكاتب أن يسترسل في أفكاره بطريقة تكون منطقية مع كل مرة يتدرب فيها عن التعبير عن ذاته. وهذا التسلسل الفكري يساعد في تشكل منطق وأسلوب تفكير أكثر وضوحًا للفرد، فهي تساعده للوصول بمنطقية لما يريده وتجعله شخصًا أكثر إقناعا بأفكاره أمام نفسه وأمام غيره.
لذلك أيها القارئ العزيز، إذا ما كنت تطمح لبدء الكتابة ثم النشر، أو لا؛ فنصيحتي هي الانطلاق في فعل الكتابة مجملًا، وتعلم التعبير عن نفسك بينك وبين أوراقك. ولا تنسى تعليم أطفالك فعل الكتابة، الاطلاع وجمع العلوم؛ حتى يتسنى لهم النضج المبكر لأفكارهم وتحسين مستوى تفكيرهم ومنطقهم في الحياة.
لماذا الكتابة..؟ عن هواية المدون وحرفة الأديب! بواسطة أراجيك - نثري المحتوى العربي
مجانا .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق