قد يبدو العنوان غريبًا للغاية فعلًا. ستقول لي، كيف يمكن للعلمانية أن تتصالح مع اللاهوتية؟ أن تتصالح مع الأديان؟ بينما الجوهر الأساسي للعلمانية هو فصل الدين عن الدولة. وقتها سأقول لك أن هناك شخص ما، قرأ التراث بشكلٍ مُعيَّن، وخرج علينا بطرحٍ جريء جعل العلمانيين يكرهونه من جهة، والإسلاميين من جهة أخرى. أجل، السيد “محمد عابد الجابري” هو الذي أخذ على عاتقه بدء موجة جديدة من التنويرية المتصالحة مع الأديان، وقدم إلينا جملة رتيبة وتكرارية، جملة: “نقد العقل العربي” المهروسة، في صورة موسوعة راقية جدًا، تحمل نفس الاسم. والتي تأخذك فعلًا في رحلة لأماكن مظلمة من عقلك، لم تكن لتنظر إليها حتى وأغلال التراث تعيق حركتك.
اليوم سوف نتحدث عن موسوعة “نقد العقل العربي” الشهيرة، والمكونة من أربعة أجزاء، وهي: (تكوين العقل العربي – بنية العقل العربي – العقل السياسي العربي – العقل الأخلاقي العربي)، وكيف لها أن باتت حجر الزاوية لدى الذين بنوا جسرًا بين منطقهم العلماني، وجوهرهم الديني. والجدير بالذكر أنه تم طرح الموسوعة بأجزائها الأربعة في عام 2000 ميلادية، في ما يقرب من الـ 2000 صفحة، وعن طريق دار (مركز دراسات الوحدة العربية) للنشر والتوزيع.
لكن قبل البدء، يجب الإشارة إلى شيء هام جدًا.
هذا المقال، بكل ما سيرد فيه، عبارة عن اجتهاد شخصي لفهم فلسفة الجابري. أي أن هناك نقاط بعينها، قد أختلف فيها مع الجابري نفسه بشكلٍ كليّ أو جزئيّ. أو ربما فهمتها أنا بطريقة تختلف عن التي أراد إيصالها للناس. لكن في النهاية، تظل موسوعته فلسفية النزعة، والقراءة في الفلسفة، تتم قولبتها حسب فهمك أنت للنصّ المطروح أمامك. وإلا لتحولت القراءة الفلسفية من وسيلة للفهم، إلى وسيلة للتلقين، أليس كذلك؟
نرشح لك قراءة: متاهات مأساوية داخل العقل الجَمْعي العربي
ماذا ستجدون في هذا المقال؟
في الواقع، هذا المقال لن يتحدث عن الموسوعة ذاتها، بقدر تحدثه عن الكاتب “محمد عابد الجابري” نفسه كشخص صاحب فلسفة غير اعتيادية بعض الشيء. عندما يتحدث أي شخص عن تلك السلسلة، سواء تحدث بصيغة الناقد الأكاديمي، أو القارئ الاعتيادي، تجده في الغالب يتحدث عن الموسوعة ككتب ومعلومات بحتة وأفكار شمولية. هنا الوضع المختلف، هنا سوف أتحدث بمنظور شخصي عن فلسفته الشخصية، وكيف لها أن ساهمت في تغيير فلسفتي للأفضل.
حديث اليوم سيكون عن النقاط الفلسفية الأبرز التي أظهرت الجوانب الشخصية للكاتب “محمد عابد الجابري”. سنسلط الضوء على كل نقطة، مُتبعين أسلوب الاقتران بين الهدف من تقديمها للجمهور، والواقع الذي يكون عليه المجتمع العربي اليوم.
وبالطبع قبل البدء في أي شيء، أحب أن أقدم تنويهًا بسيطًا للغاية:
إذا كنت لا تقدر اختلاف الآراء، هدم الثوابت، أو إعلاء المنطق على التراث، فأنصحك بغلق هذا المقال على الفور. في هذه الحالة، صدقني، لن تجد ما يروق لك هنا أبدًا.
العقل السائد والعقل المُكوِّن في موسوعة نقد العقل العربي
هذه أفضل النقاط الفلسفية التي ناقشها الجابري فعلًا، وتُعتبر الركيزة الأساسية في موسوعته ككل. في تلك النقطة، أشار الجابري إلى أن العقل العربي مُجملًا، يمكن تقسيمه إلى عقل سائد، وعقل مُكوِّن. ما هذا الكلام المعقد والغامض؟ في الواقع هو أبسط من ذلك بكثير، دعني أدردش معك قليلًا.
قال الجابري في موسوعته، أنه عند نقد العقل العربي ككل، يجب تكسيره وتصنيفه إلى شرائح أبسط، وهنا قرر تقسيمه إلى عقل يحتوي على المبادئ، وعقل يقوم بتنفيذها. أي ببساطة العقل السائد هو خلاصة المبادئ والفلسفات التي توارثها العرب منذ فجر نشأتهم. بينما العقل المُكوِّن هو العقل الفاعل، هو الأداة التي تقوم على تطبيق تلك المبادئ والفلسفات التي يطرحها العقل السائد.
يرى أن العقل المُكوِّن هو الطرف المتغير في المعادلة، بينما العقل السائد، ثابت لا يتزعزع. في وجهة نظره، التراث كعادات وتقاليد ومبادئ وتعاليم، جامد كالحجر. لكن على الناحية الأخرى، الشخص القائم أو المؤسسة القائمة على تطبيق تلك التعاليم واقعيًّا، تتغير حسب الزمان والمكان. وإذا اتسقت اليد التنفيذية مع التراث، باتت هناك جوانب سلبية للأمر. وإذا اختلفت معه، تحقق التغيير في المجتمع سلبًا أو إيجابيًا.
نرشح لك قراءة: ملامح قصور التفكير العربي المعاصر: دراسة نقدية للعقل العربي
لم يُشر الجابري أبدًا إلى طبيعة التغيير الناتج بشكلٍ مختصر، بعد سرد كتابه الأول بالكامل يتحدث فيه عن هذا الأمر. لكن الشيء الذي فهمته منه جيدًا، هو أن الاتساق يؤدي إلى تطبيق التراث بالجزء العقلاني، وغير العقلاني منه. فبالتالي تكون لدينا نتائج سلبية حتمًا في الحياة المعيشة (ضمان السلبية هنا قائم، حيث أنه لدينا بالفعل نصوص عدائية). لكن عند عدم وجود اتساق، أو وجود غلبة للعقل المُكوِّن على العقل السائد، تكون النتائج إما سلبية أو إيجابية، تبعًا للسياسة الوضعية التي يقوم العقل المُكوِّن فيها، بقهر وتعديل العقل السائد (ضمان السلبية هنا غير قائم، حيث أن النصوص التي ستُكتب، لا أحد يعلم مدى عدائيتها من العدم بعد).
إذا أخذنا تلك النقطة وطبقناها على واقعنا المعيش هذه الأيام. سينجد أن الدول التي غلَّبت العقل المُكوِّن على العقل السائد، باتت من الدول ذات الحريّات والنفوذ. بينما الدول التي لم تفعل، اقترنت بالغثّ والسمين من التراث، حتى غلب غثّها سمينها، وباتت من الدول فقيرة الحريّات، وذات النزعة الاعتمادية على الدول الأخرى. وهنا يجب أن أوضح شيئًا بعينه، الدول التي باتت صاحبة حريات، لم تترك تراثها في مهبّ الريح، هي فقط نزعت عنه التعاليم التي تتنافى مع المفهوم المتغير للحرية الإنسانية، وأزالت القيود التي كانت لتُكبِّل قدرات الإنسان على التسامي والارتقاء.
موسوعة نقد العقل العربي قالتها صريحة: تنصيب العقل ليس بالأمر السهل
في بداية الموسوعة، تطرق الجابري إلى مفهوم المستشرق والمستغرب، حيث قال أن المستشرق هو الغربي الذي يتحدث عن الشرق من داخل قالب الثقافة الغربية. والعكس صحيح مع المستغرب. ولهذا المستشرقون والمستغربون على الدوام أفكارهم تنقصها الكثير من الأشياء، حيث أنهم يتحدثون من منطلق ثقافة غير التي يُعجبون بها من الأساس. وتطرق إلى هذا الأمر لمنع سيلٍ من الأسئلة التي ستهبط على رأسه بمجرد نشر أول كتاب في موسوعة نقد العقل العربي فعلًا. والتي يكون أبرزها دائمًا هو: “لماذا تتحدث مثل المستشرقين؟ أنت عربيّ الأصل والمنشأ، لا يجب أن تطعن في ثقافتك الأم هكذا!”.
لذلك تحدث في صفحات وصفحات عن أنه عربيّ الأصل، ويتحدث عن الثقافة الأم له، بمنظور النقد والتحليل. أي ببساطة: نقد الشرق ليس حِكرًا على الأفراد القابعين خارجه فقط. وبحكم كونه معتنقًا الديانة الإسلامية في الأساس، فستكون تلك هي المحور الرئيسي في رحلة التحليل التي ستذهب فيها معه خلال صفحات الموسوعة.
ومن مُنطلق كونه عربيًّا، ومُسلمًا، سرد الجابري فصولًا خلف فصول، ينتقد فيها آلية التفكير الإسلامي ذاتها، وكيف تصرّف المُسلمون (خصوصًا الأئمة منهم) عندما ظهر العلماء الأوائل. وفي تلك النقطة، يقصد بالطبع العلماء الفعليين الذين مهدوا الطريق للحضارة الإنسانية التكنولوجية التي نحن مُحاطون بإنجازاتها من كل حدبٍ وصَوب الآن. وقال أن تنصيب العقل في الوَسط الإسلامي، لم يكن بالأمر السهل على الإطلاق.
لكن مع الوقت، بدأت تظهر انفراجة ملحوظة في النظرة الشمولية للعلوم وقتها. وتحوَّل الأمر من مجرد النظر لمفهوم العلم من الخارج، إلى التعمق به من الداخل. وذلك جعل العلوم تخرج من دائرة العناوين العامة والمُبهمة، وتدخل بدائرة التفريعات المنطقية. ولهذا تحولت التقسيمة من نحو، كيمياء، اجتماع، إلخ. إلى (علوم البيان) و (علوم العرفان) و (علوم البرهان). الأولى بداخلها النحو والفقه والبلاغة، وتعتمد في بنيتها على قياس الغائب على الشاهد كمِنهاج في إنتاج المعرفة، أو ما يُعرف بـ “المعقول الديني العربي”. والثانية بداخلها التصوف والفلسفة والكيمياء والسحر والتنجيم، وتعتمد في بنيتها على التجاذب والتدافع كمِنهاج في إنتاج المعرفة، أو ما يُعرف بـ “اللامعقول العقلي”. وتلك خطوة مهمة في تطور العرب، ومن الممتاز الإشارة إليها في موسوعة نقد العقل العربي فعلًا.
المعقول الديني العربي ببساطة مربوط بالثقافة والدين، وهو المحور الأساسي في الحكم وإنتاج المعرفة. بينما اللامعقول العقلي هو (المجهول/ اللامعقول) الذي يرجع في معيار عقلانيته، إلى المنطق العقلي، لا الديني. لأنه بطبيعة الحال، أي شيء مجهول وليس عندك أدنى فكرة عن ماهيته، سيكون بالنسبة لك غير معقول، أليس كذلك؟
أما البرهان فهو المنهج الذي اعتمد طريقة التفكير المستندة على العمليات الذهنية التي تقرر صدق قضية ما بواسطة الاستنتاج، وكانت رؤية العالم في المنهج البرهاني مرتبطة بآلية التفكير هذه، ولا تعتمد على سلطة معرفية خارج حدود هذا المنهج. ويمكن القول أن البرهان يعتمد قوى الإنسان المعرفية الطبيعية من حس وتجربة ومحاكمة عقلية في اكتساب المعرفة، وتشييد رؤية للكون بأجزائه وكليته. رؤية متماسكة ومنسجمة تلبي طموح العقل إلى إضفاء الوحدة والنظام، وترضي نزعته إلى اليقين.
ولهذا إذا قِسنا الأمر على الحضارة العربية الآن في أغلب البلدان، سنجد أن البلدان التي اتبعت المنطوق المعتمد على الدين، زايدت على الآخرين في مدى إيمانها، ومدى اعتناقها لفلسفة العنصرية والقتل. بينما البلدان التي اتبعت المنطوق المعتمد على الموازنة العقلية للامعقول، سنجدها تشرع بالتدريج في خلق بيئة مدنية تساعد المرء على العيش فعلًا. وبالطبع هذا الكلام ليس شموليًا، يوجد حيود عن القاعدة دائمًا.
وهنا يا رفاق نعود إلى أصل موسوعة نقد العقل العربي مرة أخرى. السر دائمًا وأبدًا هو العقل السائد والعقل المُكوِّن. الآن رأينا أن العقل السائد يتبع منطوق (المعقول الديني العربي)، بينما العقل المُكوِّن -عندما لا يذعن للسائد- يكون متبعًا منطوق (اللامعقول العقلي).
الابستمولوجيا في نقد العقل العربي
هذه النقطة الأخيرة التي سأتكلم عنها اليوم. لماذا؟ لكونها تُلخص الكتب الثلاثة التي أتت بعد الكتاب الأول في موسوعة نقد العقل العربي الجميلة جدًا.
في النقتطين السابقتين، سلطت الضوء على الفلسفة التي طرحها الجابري في الجزء الأول من الموسوعة. لكن بالنسبة للكتب الأخرى من نفس الموسوعة، التحدث عنها يحتاج إلى مجلدات كاملة في الواقع. ولهذا سأسرد لكم الكلمة التي شملت فعلًا باقي الموسوعة. وتلك الكلمة هي: الابستمولوجيا!
هذا المصطلح يعني مُجملًا (النظرية المعرفية). وظهر لأول مرة للنور على يد الفيلسوف الشهير، جيمس فريدريك فيرير. وتهتم دراسة الابستمولوجيا بفهم البنية التركيبية للعلوم. أي أنها تطرح العديد من الأسئلة المحورية، والتي منها:
- ما أصل المعرفة، وما الهدف منها؟
- ما هي البنية الفعلية للمعرفة، وكيف بُنيت في الأساس، وإلى أين تتجه؟
- ما هو معيار العقلانية في المعلومات المعرفية، وإلى أي عقلٍ يجب أن نذعن؟
- العقل؟ كيف نستطيع تعرف العقل في الأساس، واستنادًا على ماذا؟
وعشرات الأسئلة (الوجودية) الأخرى تطرحها النظرية المعرفية، وتحاول الإجابة عليها عبر دراسة البشر من جهة، والتاريخ من جهة أخرى.
وهنا يأتي الجابري ويستخدم ذلك المصطلح الهام في موسوعة نقد العقل العربي عشرات، بل عشرات العشرات من المرّات. يحاول دائمًا كشف الغموض عن النظرية المعرفية بأسلوبه الخاص، عبر إبحاره في التراث العربي المؤثر على العقل العربي، والذي بدوره عمل على صياغة مفهوم (عربي) النزعة، للابستمولوجيا. وعندما تحاول عمل اقتران بين هذا المصطلح، والواقع العربي المعيش هذه الأيام. ربما ستجد أن صباغة الابستمولوجيا (بالطابع العربي)، ليس أفضل شيء في الواقع.
موسوعة نقد العقل العربي موسوعة كبيرة، ضخمة، وشاملة فعلًا. لن تخرج نفس الشخص بعد الانتهاء منها أبدًا، وهذا شيء أضمنه لك يا صديقي.
نقد العقل العربي للجابري .. طرح موضوعي للعلمانية المتصالحة مع اللاهوتية بواسطة أراجيك - نثري المحتوى العربي
مجانا .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق