تعد ترجمة الأعمال الأدبية، بجانب كونها عملًا مهمًا ومساعدًا في إحيائها بأكثر من لغة، إلا أنها تساهم بشكل مباشر في تكوين الوعي العالمي وتغيير نظرات الشعوب إلى بعضها وإعادة اندماجها من جديد. وفي المكتبة العربية لا تعد ترجمة الأعمال الأدبية العربية إلى لغات أخرى منتشرة بالشكل المأمول بعد، ولم تحظ معظم الأعمال العربية بالفرصة الحقيقية التي تستحقها، إلا أن هناك بعض الأعمال التي ترجمت لأجل فرادتها، وبل وبعض الكتاب الكبار الذين ترجمت أغلب أعمالهم كمشروع أدبي متكامل.
قد تكون بداية الاهتمام الفعلي بالأدب العربي عالميًا، عبر ترجمة الأعمال الأدبية إلى اللغات الأخرى، عندما فاز الأديب المصري “نجيب محفوظ” بجائزة نوبل في عام 1988. ويعد “نجيب محفوظ” واحد من الكتاب العرب القلائل الذين ترجم معظم مشروعهم الأدبي. إلا أنه في السنوات الأخيرة تم الاهتمام بترجمة الأعمال العربية الحديثة، بل ووصلت تلك الأعمال المترجمة إلى مصاف الجوائز العالمية.
مثل رواية “فرانكشتاين في بغداد” للكاتب العراقي “أحمد سعداوي”، والتي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر عام 2018، وقد كانت فازت بجائزة البوكر العربية في عام 2014؛ وكرواية “سيدات القمر” للكاتبة اليمنية جوخة الحارث، والتي فازت عنها بجائزة البوكر كأفضل رواية مترجمة للعام 2019. كما يعتبر الأديب الليبي “إبراهيم الكوني” واحدًا من أهم الأدباء العرب الذي حاز اهتمامًا كبيرًا، وتم ترجمة معظم أعماله إلى لغات مختلفة.
نرشح لك قراءة: أفضل 6 روايات فازت بالجائزة العالمية للروايـة العربيـة
إبراهيم الكوني: خصوصية العوالم قبل أي شيئ
بدأ “إبراهيم الكوني” رحلته الأدبية في السبعينات، عندما كان يدرس في معهد غوركي للآداب بموسكو. بدأ تلك الرحلة من نقطة بعيدة جدًا عن الجو السائد للرواية العربية والعالمية وقتذاك، فحيث كانت الرواية تحتفي بالمدينة وحياتها، جاء إبراهيم الكوني ليعبر عن أساس بيئته الحارة التي جاء منها. ليعبر عن الصحراء، رمالها وجبالها وحياتها.
معظم أعمال “إبراهيم الكوني”، إن لم يكن كلها، مستمدة من تلك الطبيعة الصحراوية، وتتخذ من الصحراء مشهدًا واسعًا لأحداثها وملابساتها. لكن ما يجعل “إبراهيم الكوني” متميزًا عن غيره في ذلك العالم الصحراوي، ليس إخلاصه الشديد له، وإنما ذلك التنوع الكبير في شخصياته وأحداثه برغم انتمائها جميعا لنفس البيئة الصحراوية، حتى لتظهر تلك البيئة خصبة ومليئة بالحياة بعكس الشائع عن الصحراء أنها موطن الجفاف والموت.
ولم يكتفِ “إبراهيم الكوني” بتأليف الرواية أو الأعمال الأدبية فقط، بل أنتج أيضًا مؤلفات نقدية وموسوعية، وكان على قمة هذا الإنتاج الغير أدبي، موسوعته الهامة “بيان في لغة اللاهوت“، وهي موسوعة من سبعة كتب، يتناول فيها “إبراهيم الكوني” موضوعات وجودية متعلقة باللغة في الأساس، ويحاول مناقشة نشوء الحضارات وفي القلب منها اللغات البدائية التي شكلت أفكار تلك الأزمنة.
كما يعد “إبراهيم الكوني” واحدًا من الأدباء العرب القليلين أصحاب المشروع المتكامل والثري في آن واحد، وقد حصد لذلك على عدة جزاوئز وتكريمات دولية، منها جائزة الدولة السويسرية عن رواية “نزيف الحجر” عام 1995 وعام 2001 عن رواية “المجوس“، وجائزة الدولة الليبية عن مجمل أعماله عام 1996، وجائزة ملتقى القاهر للإبداع عام 2010، كما وصل إلى القائمة القصيرة لجائزة المان بوكر الدولية ببريطانيا عام 2015 عن رواية “ناقة الله“.
ونحن في هذا المقال سنقدم عرضًا سريعًا لروايتين من تأليفه، الأولى “نزيف الحجر” والثانية رباعية “الخسوف”.
نزيف الحجر.. عندما يصير الإنسان وحشًا..
يقدم “إبراهيم الكوني” لعالم روايته “نزيف الحجر” باستهلال مميز، حيث يصف حياة عائلة صغيرة فضلت أن تسكن في الصحراء هربًا بنفسها من مخالطة الناس ورغبة في الراحة المكتسبة من بعدهم. نتابع ذلك على لسان الطفل ابن العائلة الذي يحكي لنا جو الصحراء وكيفية الحياة فيها، وطرق النجاة وغيره مما تعلمه من حياته القصيرة وسط الصحراء.
لكن حياة العائلة لا تسير في خط هادئ كما تمنوا، وإنما يتغير الحال عند مقدم اثنين من الصيادين يبحثان عن الودان، وهو حيوان أسطوري، يجمع في شكله بين الغزال وتيس الجبل، ويشتهر بلحمه ذي الطعم الخرافي. لكن الصيادين يفشلان في بحثهما المحموم عن الودان، وتذهب القصة إلى نهاية مأساوية لأحد أفراد العائلة.
يقدم “إبراهيم الكوني” حبكته تلك وهو يستلهم موروثين أساسيين، الأول هو الأسطورة الشعبية المتعلقة بالصحراء، فتجده يوظف المكان بشكل ساحر ليستعرض كهوف الإنسان الأول ورسوماته، مع حيوان الودان الأسطوري الصحراوي. أما الثاني فهو التراث الديني في قصة قابيل وهابيل، مسقطًا بتلك القصة الرمزية على ذبح الإنسان لأخيه الإنسان. ومن خلال ذلك الدمج والتضفير بين الأساطير والتراث الديني يحاول وضع تساؤلات مهمة حول وجود الإنسان وعلاقته بالمكان وبأخيه الإنسان، وبتلك المسيرة الطويلة للتوحش الإنساني. ولا يجيب الكوني عن هذه الأسئلة نهائيًا، بل يتركها محلقة في خيال قارئه ليسعى هو للإجابة عليها.
رباعية الخسوف.. ابتداء التاريخ ونهايته
أما في ربايعته “الخسوف“، فيقدم “إبراهيم الكوني” ملحمة عربية متاكملة. نشرت أولى أجزاءها في عام 1991 تحت عنوان “البئر“، ثم توالت بقية الأجزاء تباعًا، “الواحة“، “أخبار الطوفان الثاني“، ثم “نداء الواقواق” بالترتيب.
في هذه الملحمة الرباعية يتتبع “إبراهيم الكوني” حياة قبيلة من قبائل البدو العرب في الصحراء، من خلال تتبعه واحد من أبناء القبيلة وهو غوما. يسيطر على كل جزء من الأجزاء الأربعة حدث مهم وهو ما يحرك جميع الاحداث، ففي “البئر” يحدث الجفاف الذي يدفع القبيلة إلى الهجرة، وفي “الواحة” يحدث الاستقرار الذي تلى الهجرة الأولى، ومن ثم يحدث بناء المجتمع من جديد. وفي “أخبار الطوفان الثاني” يحدث انفجار النبع ومن ثم هجرة جديدة للقبيلة. و “نداء الواقواق” هو نداء الشؤم ونذير النهاية، نهاية الأحداث، ونهاية حياة البطل. وبجانب كل حدث كبير، تتعاقب الأحداث الصغيرة واليومية العادية في حياة البطل وحياة القبيلة معًا.
وهكذا، يستمر “إبراهيم الكوني” في ممارسة لعبته المفضلة في رباعيته هذه، استخدام الصحراء والأسطورة معًا. لكنه في هذه المرة يذهب بعيدًا، حيث يحاول كتابة ما يشبه إعادة صياغة للتاريخ، ليس بمجاراة الأحداث الكبيرة فقط، وإنما باستدعاء نفس التساؤلات والهواجس أيضًا. كما يحاول التطرق لعدة قضايا أخرى، كالدين والأخلاق وعلاقة الفرد بالجماعة، وغيره من القضايا والمخاوف المتعددة التي لا تخص ابن المدينة وحده، وإنما تخص ابن الصحراء أيضا، ليثبت “إبراهيم الكوني” وجهة نظره الدائمة أن الرواية يمكن أن تكتب من الصحراء وللصحراء أيضًا، وتصل للعالمية عبر ترجمة الأعمال الأدبية الجيدة للغات العالم.
إبراهيم الكوني: من قلب صحراء ليبيا إلى غزو العالم! بواسطة أراجيك - نثري المحتوى العربي
مجانا .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق