في كل عام ومع مطلع شهر فبراير، يبدأ اللون الأحمر بالتسلل إلى كل مكان وبسرعة، ويتزامن هذا المد الأحمر مع ما يبدو كاستيقاظ للدببة المحشوة بالقطن من سباتها لتظهر على واجهات محلات الهدايا وحتى المحال العادية التي لا يخطر ببالك أنها قد تبيع شيئاً كهذا. بالطبع فكل هذه الاحتفالات تعود ليوم هام جداً في عالم اليوم: عيد الحب، أو وفق المصطلح الأكثر شيوعاً: الفالنتاين.
الجميع يعرف الفالنتاين في عالم اليوم، فالشباب المتحمس يعرفه تماماً كما المسنون الذين ربما يرونه كبدعة أرسلها الغرب إلينا. لكن وبغض النظر عن الديكور الأحمر الذي يحتل الواجهات في كل مكان ويصل حتى إلى قفازات بائع الفول المتجول وبالطبع إلى الورود والدمى (التي تصبح لفترة محدودة من أغلى الأشياء التي من الممكن التفكير بشرائها) يبدو أن هذا اليوم لم يتسلل بعد إلى المجتمع العربي كما كنا نتصور (أو كما كنت أعتقد شخصياً عل الأقل).
90% من العرب يقولون إنهم لا يحتفلون بعيد الحب
في يوم عيد الحب الأخير، قررت Arageek استطلاع جمهورها لمعرفة نسبة من يحتفلون بهذه المناسبة، وبعد أكثر من 8000 صوت، أتت النتيجة مفاجئة نوعاً ما لطاقم الموقع. حيث أن 90% من المصوتين أجابوا بأنهم لا يحتفلون بهذا اليوم الأحمر، أي أن واحداً من بين كل عشرة من المصوتين هو من يحتفل، وهذه بالطبع نسبة صغيرة للغاية وتحتاج لبعض التخمين والتحليل لمعرفة أسبابها.
بالطبع من الممكن أن التوقيت أصلاً قد لعب دوراً في الأمر، حيث أن المحتفلين بعيد الحب لن يكونوا على شبكات التواصل الاجتماعي ليشاهدوا التصويت أصلاً مما قزّم نسبتهم. وعلى العموم فتصويت على فيسبوك ليس طريقة حقيقية لدراسة أمر كهذا، حيث أن فئات المجتمع ليست ممثلة حقاً على فيسبوك، كما أن جمهور صفحة الموقع (وعلى الرغم من تنوعه الكبير) لا يعكس المجتمع العربي كما هو حقاً.
على العموم، وحتى مع كون النسبة ليست دقيقة حقاً إن أردنا التعميم، يمكن على الأقل أن نستفيض قليلاً بشأن الحب وعيده في المنطقة العربية. ومع أن الأمر ربما يكون افتراضاً لا أستطيع دعمه بأرقام مثبتة من إحصاءات مصممة علمياً، فأنا أعتقد أن الكثيرين منا يحتفلون بهذا اليوم بشكل أو بآخر، لكن لبعض الأسباب لا يمكن نقل هذا الاحتفال للعلن أو التصريح به أمام الآخرين.
هل نكذب حقاً عند الحديث عن عيد الحب؟
ربما لا أستطيع الحديث بشكل مطلق وبأرقام وإحصائيات عن الأمر (لأنها ليست موجودة للأسف) لكن في حال كان من أعرفهم يشبهون المجتمع بأي شكل، فالكثيرون منا يحتفلون بعيد الحب في الخفاء وبعيداً عن الأعين. وفي حال لم تكن مقرباً منهم كفاية أو أنك “قبضت عليهم بالجرم المشهود” فهم لن يعترفوا بالأمر كون عيد الحب “عيب”.. ليس للأسباب التقليدية فقط، بل لأسباب عديدة أخرى كما أعتقد.
بالطبع عندما أتحدث عن الاحتفال بعيد الحب هنا فأنا لا أتحدث عن حفلة وهدايا بالضرورة، حيث أن الكثير من الاحتفالات يتم اختصارها بلقاء مختصر وسريع ربما لا يكون سوى دقائق تتضمن تبادل ظروف مع رسائل محشوة بالمشاعر (كون الرسائل الورقية لا تزال تحمل قيمة أعلى كما يبدو كونها مادية)، وفي الكثير من الحالات من الممكن أن يكون الاحتفال مجرد كلمتين فقط “Happy Valentine” تصل برسالة نصية أو صوتية.
على أي حال، ووفق التعريف الذي أسير وفقه لاحتفال الفالنتاين، فأنا متأكد من وجود الكثير من مخفي الاحتفالات بيننا. لا أستطيع أن أجزم حقاً بعدد الأشخاص الذين يحتفلون كون الأمر مستحيلاً، لكن في أي مجموعة من الأشخاص هناك دائماً أشخاص يخفون احتفالاتهم، ومع الأسباب التي سأتناولها ربما يصبح الأمر مفهوماً أكثر.
لماذا نخفي عيد الحب بعيداً عن الآخرين؟
هناك جواب قصير يختصر الأمر بأكمله ربما: المجتمع. لكن جواباً عاماً كهذا ليس مرضياً حقاً، كما أنه يترك الكثير من التفاصيل المثيرة للاهتمام دون تناولها. لذا سأتوسع ولو قليلاً بحديثي عما أظنه الغطاء الذي يرغم الكثيرين على إخفاء عيد حبهم.
“شو بدن يحكوا الناس؟”
المجتمعات العربية محافظة للغاية وهذه حقيقة لا يمكن تكذيبها. حيث أنها تسير وفق العادات والتقاليد التي تتضمن لسبب ما كون أمر مثل الحب يجب ألا يكون موجوداً أصلاً. بالطبع سيقول البعض أنهم لا يعترضون على الحب لكن يجب أن يكون سرياً، لكن الواقع هو أن مجتمعاتنا تفرض كون الحب أمراً مكروهاً سراً كان أم علناً. وكون العلاقة الوحيدة المقبولة اجتماعياً لدينا هي الزواج، ونسبة كبيرة من الزيجات لا تزال “زواج صالونات” فالحب أمر مهمل عل أقل تقدير.
بالطبع وعندما يكون الحال الاجتماعي هكذا، يصبح من الصعب لأحد أن يعترف بكسره لأحد التابوهات المحرمة. وحتى في حال كان الحديث عن احتفال بين المتزوجين أي ضمن القالب الذي يفترض أن يكون مسموحاً، فالحديث عن الحب بحد ذاته هو “تابو” اجتماعي. وفي حال كنت حريصاً كما معظم الأشخاص على السمعة وكلام الناس وظنونهم، سيكون الاعتراف بالحب والاحتفال به ولو عبر تصويت على فيسبوك أمراً مستبعداً.
“شو هالسخافات، هي حركات ولاد ما في رجال بيعملها”
ربما يكون هذا السبب مؤثراً على الذكور أكثر من الإناث، لكن لا يمكن إنكار كون الصورة النمطية والتقليدية للرجولة مرتبطة بالقوة بالدرجة الأولى. وفي عالم الرجال لا تزال العواطف هي علامة ضعف كبرى، حيث أن “الرجال ما بيبكي”. وعندما تكون العواطف معاملة كنقطة ضعف تنقص من رجولة حاملها، فالحب والاحتفال به أمر لا يجوز الحديث عنه عموماً. فأن تحب شخصاً يعني أنك يمكن أن تثق به لتكون ضعيفاً أمامه.
يمكن مشاهدة الانعكاس المباشر لهذا الأمر من التناقض الواضح والكبير بين طريقة حديث “الرجال” مع شركائهم العاطفيين من جهة، وطريقة حديثهم مع أصدقائهم من الجهة الأخرى. فحتى في أشد حالات الحب المشتعل بقوة عادة ما يحاول الذكور تصوير الأمر أمام أصدقائهم كعلاقة عابرة دون أهمية. وبالطبع هنا تلعب المصطلحات دوراً كبيراً، فالنسبة الأكبر من الرجال تتجنب عبارة مثل “فلان بحب فلانة” أو أن “فلانة حبيبة فلان” بل يتم تصويرها على شكل “فلان مصاحب فلانة” أو “فلان بيحكي مع فلانة”.
“إذا بتطلعي مع واحد، بتصير سيرتك على كل لسان وما بعود حدا بقربك”
في أي مجتمع محافظ دائماً ما يكون هناك هوس كبير وشديد بمفهوم العفة ويصل الأمر إلى ما يشبه التقديس حتى. وبالطبع على الرغم من أن المتمسكين بالأمر مصرون على أن العفة هي عامل أساسي للذكور والإناث على حد سواء، فالواقع الحقيقي والمظلم هو أن الإناث هن من يخسرن نتيجة هذا الهوس الكبير بالعفة. فبينما يمكن أن يمحى تاريخ مطول من علاقات للذكور بسهولة، عادة ما تكون علاقة واحدة (سواء كانت رسمية أم لا) أو حتى إشاعة عن علاقة كافية لتدمير حياة الإناث في شطر كبير من العالم العربي.
ببساطة عادة ما يتعامل المجتمع مع النساء كبضائع بشكل حرفي، وتماماً كما تصبح السيارة المستعملة أرخص ثمناً، يتعامل الكثيرون مع أي فتاة مرت بأي تجربة عاطفية كما السيارة المستعملة. وبالطبع أمام نظرة مجتمعية قوية كفاية كهذه من الطبيعي أن تنكر الغالبية العظمى من الفتيات أي احتفال بعيد الحب، فالعلاقات بحد ذاتها لا يجوز التصريح بها أصلاً.
“لعما شو خاروف، من كل عقلك مشتري هدية؟”
لأسباب تطورية بالدرجة الأولى، ومجتمعية بشكل جزئي ربما، عادة ما يكون الذكور هم المبادرين والباحثين عن العلاقات، فيما يتركز دور الإناث بالرفض للكثير من الطلبات عادة والموافقة عدد محدود منها. بالنتيجة من المعروف أن ديناميكية العلاقات عادة ما تكون لصالح الإناث في الفترة الأولى على الأقل (بغض النظر عن المجتمع). لذا عادة ما يكون العرف هو أن الذكر يجب أن يقدم المغريات لتقبل الأنثى به ومن بين هذه المغريات دفع الحساب عند الجلوس في مطعم أو مقهى، وبالطبع تقديم الهدايا.
بالنتيجة هناك بعض (ركز جيداً على كلمة بعض) الإناث اللواتي يجدن في الأمر طريقة ممتازة للاستفادة من محبيهن المستعدين لتقدي أي شيء ممكن. هذه الحالة عادة ما تسمى “خورفة” في اللهجة السورية، والخروف هنا هو الذكر الذي يتم استغلاله ويكون راضياً بالأمر أو غير مدرك للأمر أصلاً. وبالطبع لا أحد يحب أن يظهر وكأنه عرضة للاستغلال حتى ولو لم يكن يتعرض له حقاً، فالسمعة مهمة.
وعلى الرغم من أن حالات الاستغلال من هذا النوع ليست الطاغية بالتأكيد، فهي موجودة ومنتشرة كفاية لتجعل الكثير من الذكور يخافون تماماً من أن يكونوا خرافاً أو أن يظهروا خرافاً. فالفرق ليس كبيراً حقاً بين الحالتين من حيث الضرر، فالنتيجة هي الكثير من السخرية وبالطبع فالخورفة تدل على نقطة ضعف، أي أنها أمر لا يريد الرجال إظهارها أو الاعتراف بوجودها عادة.
المضحك ربما هو أن الخوف من الظهور كخاروف ليس حصرياً للعلاقات غير الرسمية حقاً، بل من الممكن أن يظهر حتى بعد الزواج. لكن هنا عادة ما تكون السخرية من نوع “مرته راكبته”، عبارة سخرية مختلفة (ومخيفة للكثيرين) لكن المعنى واحد.
“كنا مفكرينو رزين وواعي، طلع طايش”
هنا وعلى عكس السبب العائد لخوف الكثير من الرجال من إظهار عواطفهم، فالأمر يؤثر على النساء والرجال على حد سواء. فهنا الأمر لا يرتبط يمظهر القوة حقاً، بل بمظهر الحكمة والرزانة. حيث أن الشخص الرزين وفق التعريفات المستخدمة على ما يبدو هو شخص لا يتأثر بالعواطف عموماً ودائماً ما تكون ردود فعله طفيفة للغاية. والنتيجة بالطبع هي وجوه عابسة في كل مكان تعتقد أن الابتسامة أو الضحك (أو الاحتفال كونه تعبير عن السعادة) هي أشياء تتناقض مع المعرفة والذكاء.
بالنتيجة عادة ما تكون الاحتفالات العربية عموماً ذات طابع مختلف، فالاحتفالات (حتى تلك المقبولة اجتماعياً) لا تتضمن الكثير من الوجوه الضاحكة والمبتسمة، بل عادة ما يتم تلخيصها ببعض الزينة والحلويات والطقوس التقليدية شبه الآلية. بينما التعبير عن الفرح هو شيء مخصص للأطفال، وبمجرد أن يقترب الشخص من سن النضج يجب أن يمسح ردود أفعاله العفوية لأنها “علامة طيش” ويستبدلها بعبسة ومظهر جدي قلما يتغير ليظهر ابتسامات نادرة يتم إظهارها لأشخاص محدودين فقط.
في النهاية، ربما أنا أحمل الموضوع أكثر من حجمه، وسبب النسبة الهائلة للأشخاص الذين قالوا إنهم لا يحتفلون بعيد الحب هو ببساطة أن اسم الموقع هو Arageek، وفي الصورة النمطية عادةً ما يكون الـ Geeks هم الأقل حظاً في العلاقات العاطفية، وبالطبع لن تحتفل بعيد الحب وأنت وحيد مثلاً.
The post العرب لا يحتفلون بعيد الحب (الفالنتاين)، أم أننا فقط نخفي احتفالاتنا؟ appeared first on أراجيك.
مجانا .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق