الحُبّ هو المفهوم الذي حيّر الملايين. يقول البعض أنه شعور بالاحتياج، ويقول البعض الآخر أنه نزعة نحو الكمال، وآلاف الآراء توجد بالمنتصف. وبالرغم من اختلافها، إلا أن نتيجتها واحدة: المكوث.
الحُبّ كنتيجة، هو وجود شخصان، كل منهما سعيد بوجوده مع الآخر بجانبه، وتلك السعادة نتيجة أوليّة تترتب عليها أخرى ثانويّة، ألا وهي المكوث. لكن اليوم لن نتكلم عن الحُبّ كنتيجة، بل كمفهوم. ولن نأتي على ذكر ملايين المفاهيم التي تناولته بأشكال مختلفة، بل سنأتي على ذكر الآراء الفلسفية التي أخذت الحب بطريقة مُجردة تارة، وطريقة واقعية تارة أخرى.
الحُبّ من منظور العظماء
ولكون اليوم يوافق (14 فبراير) هو عيد الحُبّ Valentine’s Day أو الفالانتاين؛ فاليوم معنا أسماء لامعة في سماء الفن المنثور. معنا كتّاب من جهة، وفلاسفة من جهة أخرى. ولكل منهم مفهوم فريد عن الحُبّ.
لكن مهلًا، لا تتعجلوا، هذا ليس كل شيء. في النهاية سنتحدث قليلًا عن مفهوم الحُبّ في العصر الحديث بعد فناء كل هؤلاء العِظام، ولم تبقَ منهم إلا حروف منثورة في صفحات لا يقرأها كل إنسان إلا بالصدفة.
أنيس منصور
بمنتهى البساطة والهدوء، أنيس منصور، في وجهة نظري، هو أبرع وأدق من وصف الحب.
الذي قرأ لأنيس سابقًا، يعرف أن أسلوبه يمزج بين الفصحى البسيطة والعاميّة المصريّة الأبسط، ليصير سرده أشبه بلقاء حميمي مع شخص عزيز، على إحدى المقاهي الصغيرة في ليلة خريفية هادئة على شاطئ الإسكندرية بمصر.
كل إنسان يبحث عن الحُبّ. الطفل يبحث عن الحنان، والمراهق يبحث عن الزمالة، والبالغ يبحث عن الزوجة، والعجوز يبحث عن الممرضة، وكلها أنواع من الحُبّ. ولا يمكن الاستغناء عن الحُبّ أبدًا.
هنا وصف أنيس الحُبّ على أنه شعور تجاه شخص يوجد به ما ينقصه. وصف الطفل بالباحث عن الحنان، والبالغ عن الزوجة، وهكذا. كل شخص له شيء يبغاه بشدة في كل مرحلة من مراحل عمره المختلفة. الحُبّ بالنسبة لأنيس ليس مقترنًا بالغريزة فحسب، بل عنصر الاقتران الأعظم هو البحث عن الكمال.
ولهذا أنيس هو الأكثر واقعية؛ حيث أن كل واحد فينا يبحث عن شيء ما. وإما أن يجده ويصير سعيدًا بمقدار الحاجة له، أو لا يجده أبدًا ويقعد ملومًا محسورًا.
مصطفى صادق الرافعي
الرافعي، وما أدراك مع الرافعي.
أبرز أعمال الرافعي هو كتاب (وحي القلم)، والذي يمكن أن نعتبره أقوى عمل نثري ضخم يمكن أن تقرأه في حياتك كلها. الكتاب لا يحتوي فقط على حكايات وقصص، بل بداخله نصوص نثرية قائمة بذاتها، تُدخلك في حالات شعورية لن تستفيق منها إلا بعد وقت طويل جدًا. كلماته كالوخز الرقيق، خِدرها يدوم لساعات، ونشوتها لأيام.
ولا شيء في الدُّنيا غير الحُبّ يستطيع أنْ ينقل إلى الدنيا نارًا صغيرة وجنَّة صغيرة، بقدر ما يكفي عذاب نفسٍ واحدةٍ أو نعِيمَها، وهذه حالةٌ فوق البشريَّة.
هنا يصف الرافعي الحُبّ على أنه مؤثر مهول على الإنسان، وقادر على أن يُحيل حياته إلى جنة صغيرة، أو نار صغيرة. وذلك حسب الحالة النفسية التي يُترك عليها المحب بعد احتضان مشاعره الخاصة. يمكن أن يُقبل الشعور ويكون متبادلًا، وتصير حياته جنة صغيرة. أو يُرفض، وتصير نارًا صغيرة.
ووصف الجنة والنار هنا بالصِغر لكونها لا تقارن بالجنة والجحيم السماوي فحسب، بل أيضًا لأنها من صنع الإنسان لذاته. وهنا نجد أن الرافعي لا يضع مجالًا لمقارنة صنع الإنسان، مع صنع الخالق. وهذا يؤكد على نزعته الدينية التي تغلب على معظم كتاباته فعلًا.
أرسطو
أرسطو أحبّ أن أطلق عليه: إله المنطق. هذا الرجل هو الذي وضع حجر الزاوية في علم المنطق، والذي هو قائم في حد ذاته على فلسفة الاستدلال من أجل التفسير. والتي تحاول وضع أكثر من تفسير بناء على دلائل مُعينة، ثم انتقاء التفسير الأنسب تبعًا للواقع. مما خلق في النهاية ما يُعرف بـ (الطريقة العلمية في التفكير)، والتي جعلت كل العلوم تصل إلى ما هي عليه الآن.
أن يحب المرء يعني أنه يتمتع، في حين أنه يتمتع إذا كان محبوبًا.
شخص كهذا بالطبع لن يرضى بأي تفسير غير منطقي للحُبّ. ولذلك كان وصفه السابق ينطوي على قمة المنطق في الواقع. قال أن الحُبّ يعني التمتع، أي السعادة. في حين أن التمتع في حد ذاته كشعور، لن يكتنف إلا المحبوب. وهنا لنا وقفة.
قال المحبوب، وليس المُحب. المحبوب هو الذي يُغمَر بالعاطفة والاهتمام من قبل المُحب. وهنا يقصد أن الحُبّ إذا لم يكن متبادلًا، أي إذا لم يكن كل محب في مرتبة محبوب بالنسبة للآخر، ستكون العلاقة فاشلة. وهذا للأسف ما نراه حاليًّا في العلاقات التي يُطلق عليها: حُبّ من طرف واحد.
أفلاطون
أفلاطون هو أحد أشهر فلاسفة التاريخ بالطبع، وهو التلميذ الأنجب لسقراط. سقراط كان أبرز أعلام الفلسفة الحوارية، لكن أتى أفلاطون وجعل تلك الفلسفة هي المِنهاج الذي بات يُعرف حاليًّا باسم: علم الحوار.
اعتمد أفلاطون –على عكس أرسطو- على المزج بين الواقع والخيال. طريقة تفكيره منطقية بدرجة مهولة جدًا، وذلك تبعًا لتأثره برياضيات فيثاغورث. لكنه أيضًا حافظ على الجانب المتصوِّف منه، وباتت فلسفته تعتمد على جانب فيزيقي محسوس، وآخر ميتا فيزيقي غير محسوس.
الحُبّ الحقيقي هو الذي يحول الكره في قلوبنا إلى حُبّ، ويحول الحزن إلى فرح، والدمعة إلى ابتسامة.
هنا تظهر النزعة التكاملية بين المحسوس وغير المحسوس. هنا مزج الفليسوف بين المشاعر الإنسانية كالحُبّ والكره، والتجسيد المادي لها كالدموع والابتسامات. وهنا يرى أن الحُبّ هو القوة غير المحسوسة التي تستطيع تبديل أي حالة إلى حالة أخرى، بل وتساعد على تجسيدها بشكلٍ ماديّ كذلك.
ابن حزم الأندلسي
أشهر فقهاء الإسلام دون منازع، والأغزر في الكتابة من بعد (الطبري). لكن بالرغم من تفوقه المذهل في علوم الفقه وما يخص المذاهب والشعائر الإسلامية بالمُجمل، إلا أن له أقوال كثيرة عن الحُبّ. ويتناول ابن حزم الحب بداخل الكثير من القوالب التي تنتمي إلى العشق الإلهي تارة، والعشق المادي تارة أخرى.
للحُبّ علامات يقفوها الفطن، ويهتدى إليها الذكى، فأولها إدمان النظر، والعين باب النفس الشارع، وهى المنقبة عن سرائرها، والمعبرة لضمائرها والمعربة عن بواطنها. فترى الناظر لا يطرف، يتنقل بتنقل المحبوب وينزوي بانزوائه، ويميل حيث مال كالحرباء مع الشمس.
- نرشح لك قراءة: طوق الحمامة: أشهر ما كتب عن الحُبّ والهوى عند العرب
هنا تظهر فلسفة ابن حزم بخصوص الحُبّ يا رفاق. هو اختزل الحُبّ في العيون، وقال أن العين تفضح صاحبها، وتُحيطه بعلامات كثيرة لا يلاحظها إلا الذكي. يرى أن الناظر لا تطرف له عين عن محبوبه، وتخبو العين حين يخبو المحبوب كذلك.
شوبنهاور
إذا لم تتعرف على التشاؤمية في أي يوم من أيام حياتك، فأحب أن أقدم لك المادة الخام لها: آرثر شوبنهاور.
على عكس نيتشه والفلاسفة الآخرين، شوربنهاور يجد غاية من الحياة فعلًا، لكنها ليست غاية إصلاحية، بل غاية إذلالية. يرى أن الإنسان يعيش كي يُذّلّ في هذه الحياة، والتشاؤمية هي عنوانه في كل شيء وأي شيء.
الحُبّ وردة، والمرأة شوكتها.
يرى أن الحُبّ عبارة عن وردة جميلة جدًا، وهنا يقصد الحُبّ كمشاعر وأحاسيس. لكن عندما تنظر للوردة جيدًا، ستجد أن حولها أشواكًا تفسد جمالها، تلك الأشواك هي المرأة. هذا الرجل يبغض المرأة، نظرًا للكثير من النكبات التي سببتها له التاء المربوطة. فلسفته تشاؤمية أجل، لكنها أيضًا واقعية بالنسبة للبعض.
هذا جميل جدًا، ماذا بالنسبة للحاضر المعيش؟
هنا لنا وقفة. إحم… وقفة كبيرة أيضًا.
فلسفات الحُبّ كلها هذه الأيام لا فائدة منها على الإطلاق. ربما تقولون أن الحُبّ يتخطى حدود الزمان والمكان، ويمكن أن يُطبق في أي حضارة وفي أي وقت. لكن يا أعزائي، الواقع مختلف فعلًا.
هذه الأيام صارت رسائل الحُبّ لا تُكتب على الورق، بل عبارة عن أرقام رقمية تُترجم إلى حروف رقمية أيضًا. وبات الحُبّ مدعاة للوصم المجتمعي بالعُهر والدناسة. ممارسة الحُبّ تدخلت فيها الأعراف والعادات والتقاليد، وجعلت الحُبّ عبارة عن مسخ مُشوّه يحاول أطرافه تجميله، لكن دون فائدة.
لكن بالرغم من كل ذلك، يبقى بعض البشر الذين يقدسون الحُبّ فعلًا، ويتغنون بالفلاسفة وتعريفاتهم عنه. أنا أحد هؤلاء، وفي يوم الحُبّ، قررت أن أعبر عن مشاعري لمن أحب، وأنا أتحدث عن الحُبّ، وهذا ما يجب أن تفعلوه كذلك.
في النهاية.. عيد حُبّ سعيد عليكم جميعًا!
مجانا .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق